عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970


الفصل السابع  دمشق وجنوبي سوریا

الجزء التاسع

 دمشق وجنوبي سوريا

أتناول الآن موضوعًا مهماً جداً يتطرق إلى حياة الدويلات الآرامية.

لأن دمشق كانت تشكل قلب الدويلات الآرامية النابض. وقد لعبت هذا المنطقة دوراً كبيراً في الشرق الأوسط، وكانت علاقاتها تمتد إلى جميع الآراميين المنتشرين في أعالي بين النهرين وحتى في المناطق الوسطى منها والجنوبية.

وكان وجودهم يزعج الإمبراطورية الآشورية، ويسبب لها مشاكل كثيرة. وقد أسهموا، مع دول أخرى، ولاسيما الدولة البابلية الحديثة، في القضاء على الإمبراطورية الآشورية سنة ٦١٢ ق.م.

 اسم المملكة

 بين الدول المشرقية المعروفة نسبياً، كانت دمشق وحدها تختص عادة باسم "آرام".

وهذا هو الاسم الذي تحمله في كتابات "زكور" وفي سفر الملوك من العهد القديم، في حين أن الكتاب المقدس يحتفظ باسم "دمشق" للعاصمة. كذلك تمييز النصوص الآشورية التي تذكر هذه المملكة بين اسم البلاد واسم عاصمتها.

ولكن منذ الاصطدام الأول بين الأمتين في عهد الملك شلمناصر الثالث الآشوري، تستبدل النصوص اسم "آرام" بتسمية يبدو أنهم هم الذين صاغوها، وهي "كور- شا ايميريشو"، وتعني حرفياً "بلاد حميرة " ١

 الدولة الآرامیة الجنوبیة قبل تأریم دمشق

 إن وضع مملكة دمشق مثل "آرام" باختصار، أو مثل قوة آرامية، ليس أقدم من الانتفاضة التي قام بها رازون، وهو ضابط منشق على مملكة  "صوبة " :

طوال شيخوخة الملك داود، أو في عهد ابنه سليمان ( ١ ملوك ١١: ٢٣  ٢٥ ).

إلا أن الحضور الآرامي في جنوب حماة لم يكن جديداً. فمنذ  سنة ١١٠٠ ق.م، كانت القبائل تعتاد الفرار من أمام وجه تغلاثفلاصر الأول نحو الغرب عبورًا بتدمر.

وهناك تقليد عن يعقوب (تكوين ٣١:٢٢-٥٤) لا يضع سوى مسيرة عشرة أيام بين بلاد لابان الآرامي (حران) وبين موقع جلعاد حيث لحق لابان بخته يعقوب. 

من المتفق عليه أن داود ملكَ في بدء الألف قبل الميلاد. وينسب سفر  صموئيل الثاني إليه انتصارات باهرة أحرزها على آراميي بيث رحوب وصوبة، وكانت تساعدهما أولاً جيوش من طوب ومعكة ( ٢ صموئيل ١٠: ٦  ١٤ )، ثم جيوش أمثالهم في ما وراء الفرات (الآية ١٥ - ١٩ ).

من  الصعب تنسيق هذه الأحداث المتعلقة برواية داود وأبيشالوم بموضوع الحملات العمورية مع ( ٢ صم ٨:  ٣ - ٨  الذي يعطي جزءًا من سلسلة معلومات عن انتصارات داود على الصعيد الدولي.

فإن مناسبة الخلاف ومسرح العمليات يختلفان في ( ٢ صم ٨: ٣-  ٨ عن  ،١٠ : ١٥-١٩)2 ولكنه من غير المقبول تاريخياً أن يكون هدد عزر بن رحوب ملك صوبة قد استطاع تنظيم حملة جديدة ضخمة بعد الهزيمة النكراء التي مُنيَ بها والمذكور في ( ٢ صم ٨:٣-٨ أو في١٠:١٥ - ١٦) مهما كان   الترتيب الزمني الذي يعُطي لهذه الحروب.

وبما أن الروايتين تخصان العدو نفسه ٣، ولهما هدف مشترك هو هدف الآراميين ما وراء الفرات، فيمكن القول إننا ههنا أمام روايتين مختلفتين للحرب نفسها.

هناك تفاصيل واقعية في ( ٢ صم ٨:٢-٨)، مثل أسماء المدن والغنيمة، وردة فعل ملك حماة بعد انتصارات داود، تحملنا على الاعتقاد أن هذه الرواية هي أقرب الى الأحداث من(صم ١٠ : ١٥ - ١٩).

مهما يكن من أمر، فالتقليد الكتابي يرقى بصعوبة إلى القرن العاشر قبل الميلاد ٤ وبحسب هذا التقليد، كانت هذه الدولة تنعم ببعض السلطة على آراميي بيث رحوب وعلى أهالي طوب ومعكة، وعلى آراميين مستقرين ما وراء الفرات.

إن نصوص العهد القديم لا تُطلعنا مباشرة على وضع صوبة الجغرافي.

إن المنطقة المحيطة بمركز المستقبل هليوبوليس (بعلبك) وكلسيس، كانت ستصبح مقاطعة "منصورة" الآشورية.

ولكن لا شيء يشير إلى أن منصورة كانت تتميز منذ ذلك عن "صوبة" في عهد هدد عزر.

 والمصدر الذي يذكر "بيروتاي" (٢ صم٨ : ٣-٤،  ٧-٨) يسمى هدد عزر.بن رحوب، ولكنه لا يذكر بيث رحوب بصورة منفصلة.

 وحتى ٢ صم ١٠:٦- ٨، الذي يذكر بيث رحوب، يربط هذا الموضوع بصوبة.

وبشيء من التوافق نستطيع القول إن هدد عزر كان أصله من شعب رحوب، وكان يحكم البلدين... قد يكون من الأفضل أن نضع الحدود بين صوبة وبيث رحوب قليلاً نحو الجنوب بالقرب من "منصورة"، وهذا ما يوحي به سفر القضاة ( ١٨-  ٢٨ )

مهما يكن من أمر، فإن صوبة كانت شمالي بيث رحوب، ويجب أن ننسب إليها ليس الوادي وحسب، بل جبال أنتيلبنان.

أما سكوت نصوص العهد القديم عن ذكر هذه البلاد بعد انتصارات داود، والأهمية التي اكتسبتها دمشق منذ عهد سليمان، فهذا لا يعني الزوال الفوري لصوبة وسلالتها.

 ونعتقد اننا نراها من جديد سنة ٨٥٣ ق.م، في نهاية تعداد القوات المشرقية المضادة للملك شلمناصر الثالث في "قرقر" وأن الاسم المستعمل في النص الآشوري وما ورد في (١ ملوك ١٥:١٨-٢٠) قد يمكّننا من الافتراض  أن صوبة السابقة ما يزال يحكمها رجل من بيث رحوب، ولكنها كانت قد فقدت الكثير من نفوذها وأراضيها، ويبدو أن سياستها وقعت تحت سيطرة دمشق، كما كانت دويلات الساحل تحت تأثير حماة.

دمشق ومملكة آرام  قضایا جغرافیة

دمشق وواحتها

بعد انتفاضة رازون، تحول مركز الثقل نحو دمشق، في السهل، نوعاً ما تحت إبط أنتيلبنان.

وإذ كانت الأمطار قليلة في دمشق، فإنها تعالج وضعها الصحراوي بالأنهار التي تنحدر إليها من منطقة الزبداني، ولاسيما بنهر بردى الذي كان يُسمى "أمانة"، مثل الجبل الذي منه يستمد ينبوعه. فالمدينة نمت في واحة هي الغوطة.

وكان الري يغنيها بالنباتات التي أثارت غضب الملك شلمناصر الثالث وتغلاثفلاصر الثالث.

 إن المدينة العصرية لم تُتِح لعلماء الآثار أن يكشفوا عن مخطط العصر الحديدي وعن آثاره.

نعرف فقط انه في القرن الميلادي الثالث، كان معبد لجوبيتر الذي كان يشغل مركز المدينة، والذي ما تزال جدرانه قائمة حتى الآن، لا سيما من الجهة الغربية ومن الجهة الجنوبية من الجامع الحالي، هو آخر شاهد سابق للعهد المسيحي لمعبد هدد المذكور في العهد القديم ( ٢ ملوك ٥ : ١٨.(

الأراضي الأخرى

أطراف الصحراء وحوران

إن الركيزة الاقتصادية الصلبة التي كانت الغوطة توفرها لدمشق، كانت تُضاف إلى وضعها الاستراتيجي في منحدر "طريق الملك" وتجعل منها مركزاً ممتازاً للقوافل. وقد حددها هذا الوضع إلى توسيع مدى نفوذها أكثر ما أمكن.

إن التأريم كان يتيح لها أن تستوعب بسهوله الشعوب التي كانت من قبل تتميز بوضوح عن المدينة القديمة، والضربات التي وجهها الملك داود إلى قوة صوبة وفَّرت لدمشق فرصة رائعة للاستحواذ بسرعة على بقية الآراميين في الجنوب.

فكان بعض من هؤلاء قد تشتتوا على أطراف الصحراء، حيث كانت الآبار تتيح لهم العيش بحسب حياة الرعاة والقوافل.

إلى الجنوب أكثر، بين حرمون وجبل الدروز والحوض الأعلى ليرموك، كان السكان أكثر كثافة وهم على ثقافة حضرية تساعدهم الأمطار وأرض بركانية خصبة، وكانوا يملأون حوران (باشان العهد القديم) التي سيجتاحها شلمناصر الثالث مرتين:

 في سنة ٨١٤ ق.م و ٨٣٨ ق.م. لكن آثار العصر الحديدي غير منظورة فيها، بالمقارنة مع الحقب الآثارية الأخرى.

ولم يح َ ظ جنوب سوريا بالتنقيبات العلمية الكافية.

وآثار التأثير الحثي  ما يزال يَسِم حوران في عهد ملوك آرام.

جشور ومعكة

في غربي حوران تشير المعطيات الاثارية الى أن جشور، على الشاطئ الشرقي من بحيرة طبرية، عرفت تغييرات مهمة جعلتها على طابع آرامي، في نحو مطلع القرن التاسع قبل الميلاد.

ونعتقد أن معكة الواقعة شمالي جشور، كان لها المصير نفسه قبل ذلك، وربما قبل أن تتجاوز إلى جانب صوبة والعمونيين ضد الملك داود.

وإذا كان هذا النمو قد تجسد على الصعيد السياسي أم لا بخضوع هذه البلدان لدمشق، قبل إلحاقها التام بها، فإن غزوات بن هدد في شمال الجليل بحسب (١ملوك ١٥:٢٠) تميل إلى وجود  اتحاد وثيق بين معكة وجشور ودمشق.

والسكوت السائد حول حضور هاتين الدويلتين في قرقر، كأنه يفرض أنهما في سنة ٨٥٣ ق.م كانتا قد فقدتا كل حكم ذاتي ووطني، وكانت آرام تمتد إذ ذاك على طول الحدود الشمالية لإسرائيل.

آرام جارة إسرائیل

لكان من المهم لو أننا استطعنا أن نوضح إلى أي مدى كانت سلطة دمشق تمتد باتجاه الجنوب، شرقي نهر الأردن، قبل غزوات حزائيل في هذه، المنطقة، وهي أقدم منطقة خلاف تذكرها النصوص هو راموث جلعاد ٥، حيث تجابه حزائيل ويورام بن آحاب، وذلك في نحو سنة ٨٤١ ق.م.

 وفي لائحة محافظي سليمان، الدائرة التي سلمت إلى "جبار" (١ملوك ٤:١٣) أعطت شكلاً من الأساس لأسطورة الغزو والاستقرار في باشان (حوران)، كما في التثنية ٣.

ولكن هذا الفصل والنصوص المتعلقة بدخول إسرائيل إلى عبر الأردن الشمالية، لا تتيح لنا أن نوضح ظروف هذا الدخول ولا كثافته السكانية ولا مدته.

 في ( ١ ملوك ٢٢:٣)، يتكلم ملك إسرائيل وكأنه يريد أن  يحطم خمول رجاله تجاه خسارة قديمة قد اعتادوها.

وقد ترقى سيطرة الآراميين على راموث جلعاد إلى ما وراء الحرب بين آسا وبعشا، لأن لائحة الغزوات الآرامية التي سببتها هذه الحروب ( ١ ملوك ١٥:٢٠) لا تذكر عبر الأردن.

التاریخ السیاسي لمملكة دمشق

آرام وإسرائیل بعد رازون

بعد الحرب الباردة التي تبعث ادعاءات داود على دمشق، آرام وإسرائيل غيرتا حكامهما بر هدد (ابن هدد بحسب الكتاب المقدس) الذي نجده على عرش دمشق في منعطف القرن التاسع قبل الميلاد ليس رازون أباه ولا جده ٦.

 أما ابن سليمان، فقد رفضه الجزء الشمالي من مملكته ( ١ ملوك ١٥) الذي أطلق عليه اسم إسرائيل والحدود الآرامي.

 إن القادمين الجدد إلى الحكم لم يكونوا مرتبطين بخصومات أسلافهم، فعقدوا السلام، ومن ثمة المعاهدة التي ورد ذكرها في (١ملوك ١٥:١٩).

ولما اشتد على آسا ملك يهوذا ضغط جاره بعشا، اشترى نقص هذه المعاهدة وحصل على التدخل الآرامي في مؤخرات جيش إسرائيل.

 ويربط العهدى القديم بهذا الحادث الغزو الذي قام به بن هدد للجليل كله وشمالي وادي بيث نتوفة ( ١ ملوك ١٥: ٢٠).

ومن الأرجح أن معبد "دان" هُدم آنذاك. وربما يمكننا أن نضع في هذه الفترة نفسها ترك ١٩ موقعاً من ٣٦ موقعاً في الجليل الأسفل.

كان التراجع الإسرائيل مؤقتاً، إذ يمكن أن تؤرخ في عهد آحاب تجديد "دان" وتحصينها، وكذلك إعادة بناء "حضور" بناية أوسع (يشوع ١١:١٠).

ولا بدّ أن زحف آشورناصربال نحو البحر المتوسط بين سنة ٧٨٠ ق.م ٨٦٦ ق.م قد أثار حكام الجنوب في سوريا لكي يتحدوا.

وإن تقارباً بين آرام وإسرائيل قد يرقى إلى عهد "عمري" (٨٨٥ - ٨٧٥ ق.م).

وتظهر حكمة هذا الموقف حينما قضى شلمناصر الثالث، على المقاومة غير المتناسقة جيداً التي أبدتها دول سوريا من الشمال، دمرّ بيث أذيني (٨٥٨-٨٥٥ ق.م).

وحينما طلب أورحميلينا المساعدة سنة ٨٥٣ ق.م، أفلح ملك آرام، هدد عزر، في تنظيم تحالف أنجح بكثير من ذلك الذي كان قد ساند "أحوني".

هدد عزر وتحالف الإثني عشر

الحُلفاء السوریّون الإثني عشر

إن كتابات شلمناصر الثالث تزودنا بمعطى ثابت، وهو أن الحلفاء السوريين كانوا اثني عشر. إلا أن اللائحة الوحيدة التي لدينا، وهي لائحة "كورخ" تعدّ ١١ أميراً معادياً فقط. وبحسب هذا المصدر، كان خصوم ملك

آشور:

  • أورهيلينا (حماة)

  • هدد عزر (آرام)

  • ملك بيبلوس (بدون اسم)

  • آحاب (إسرائيل)

  • ملك إرقانا (بدون اسم)

  • ملك صومور (بدون إسم)

  • ملك اوساناتو (بدون اسم)

  • متان- بعل (ارواد)

  • حنديبو (بلاد العرب)

  • ادون بعلي (شيانو)

 
  • بعشا بن رحوب (أمانة)

ويعددّ المصدر قوة كل ملك وما قدمه للحرب من الرجال والخيل والمركبات الحربية.

القوات المجنَّدة في قرقر

إن القوات التي ز جّها المتحالفون في المعركة تبدو مقبولة، ولو أن الآشوري يبدو وكأنه يبالغ في بعض أرقام القوات المعادية لتبرير فشله.

مهما يكن من أمر، فإن حماة ودمشق وإسرائيل ألقوا بثقلهم في الميزان، وان الجيش السوري يبدو متفوقاً على جيش شلمناصر الثالث في مركبات الحرب، وربما في الفرسان والمشاة أيضاً.

 موقف الإمارات الساحلیة

 إن غياب صور وصيدا، وهما شريكان فعّالان لإسرائيل ودمشق في التجارة، لأمرّ يدعو إلى الاستغراب.

لكن له ما يشرحه. حينما كان آشورناصربال قد بلغ إلى منافذها الشمالية قبل نحو عشرين سنة من هذا التاريخ، كان الفينيقيون قد قدموا له خضوعهم.

وهذا لم يكن موقف حماة وجيرانها الجنوبيين. وفي سنة ٨٥٨ ق.م كانت المدن الساحلية قد جددت هذا الخضوع لشلمناصر الثالث.

 فإذا ناضل الصيداويون الآن ضد الإمبراطورية الآشورية، فلربما أعتُبر موقفهم بمثابة تمردّ يستحق قمعاً صارماً.

 وكانت بيبلوس (جبيل الحالية) وأرواد وغيرها قد قدمت الخضوع هي أيضاً لأشورناصربال، ولكن كان عليها أن تحسب حساباً لحماة المجاورة التي كان شلمناصر الثالث يهدّد مصالحها تهديداً مباشراً.

وضعف العناصر التي أرسلها معظم هذه الدول هي نسبية مع واقعها الديمغرافي.

ولكن ربما هذه الدول قد حسبت حساباً للرجعة، خوفاً من ابن آشورناصربال، وفي الوقت نفسه كانت غير قادرة على مقاومة ضغط القوى المجاورة لها.

 دمشق والعرب

 إن فرقة الخيالة التي أرسلها "جنديبو" لأمر جديد في الوثائق التاريخية.

فالعرب، مثل الفينيقيين كانوا ظاهرياُ قد ارتبطوا بالشبكة التجارية التي تسهلها "طريق الملك" وفي هذا المضمار، كانت دمشق تحظى بوضع متميز.

ومن الجدير بالاهتمام، أن نعتبر في هذا السياق ختماً من القرن التاسع قبل الميلاد، مكتوباً بالآرامية، ويحمل رموزاً نجومية ويكرم "عطار  شماين" وهي ألوهة شعبية بنوع خاص عند العرب.

 نتیجة المعركة

 رأينا سابقاً كيف أن الملك الآشوري، قبل اصطدامه بالجيش السوري الكبير، كان قد وطَّد سيطرته على حلب، واستولى على مدن كثيرة كانت في الظاهر جزءاً من لعش، ولكنها كانت من الآن خاضعة لملوك حماة، وهدم قرقر "المدينة الملكية" الحماتية.

ولكنه من الواضح والمعترف به عامة أن انتصار شلمناصر الثالث لم يكن باهراً إلى الحدّ الذي يدعيه.

وإذا كانت مجزرة الأعداء التي يفتخر بها غير وهمية، فإن النتيجة الهزيلة اضطرته إلى التوقف.

فلو كان إنتصاره حقيقياً، لكان عليه أن يواصل زحفه نحو الجنوب.

 إلا أن معظم روايات الحملة السادسة تتوقف في قرقر، ووثيقتان تشيران إلى انه بلغ الساحل. ولو أن الخسائر الآشورية لم تكن جسيمة، لبدأ شلمناصر هجوماته من جديد في الفصل اللاحق المناسب، كما كان قد فعل سابقاً في نضاله ضد "بيث أديني".

 أما الآن، فلم يحدث شيء من ذلك ٧. وكان هدد عزر قد أنقذ أورهيلينا!.

 إصطدامات جدیدة مترددة، انحلال المعاهدة

 حينما أعاد شلمناصر الثالث الكّرة في السنوات،٨٤٩،٨٤٨ ،٨٥٤ ق.م ٨، جابه المقاومة نفسها كل مرة.

ولن تُذكر من الآن اللائحة المفصلة لملوك الأعداء. ولكن يبدو أن التحالف ظل غير متغير. وكانت مجابهات تجري بصورة اعتيادية في الأراضي الحماتية.

 إلا أن موضع هذه المجابهات لا يذُكر، ما عدا في الحملة الحادية عشرة (سنة ٨٤٨ ق.م)، حيث أعلن عن الاستياء على مدينة "أشتماكو" الملكية، وعلى ٨٩ مجموعة أخرى. وفي سنة ٨٥٤ ق.م ربما كانت المصادمة أقوى من أي وقت آخر.

 في هذه الحملة فقط يشير شلمناصر إلى عدد جنوده، أي ٦٢٠ ألف جندي. وإحدى روايات هذه الحملة تتكلم عن خمسة عشر عدواً عوضَاً عن اثني عشر.

 لكننا نفهم إرهاق حماة الذي حملَ ملكها على طلب السلام في نحو سنة ٨٤٢ ق.م. وحينما عاد شلمناصر الثالث إلى سوريا في حملته الثامنة عشر (٨٤١ ق.م) كان الخصم الوحيد الذي التقاه هو حزائيل الآرامي.

وبعد ذلك، في السنة نفسها، تلقى جزية ملك إسرائيل، ياهو بن عمري.

وبالإضافة إلى هزيمة حماة وضعت هزيمة إسرائيل حداً للحلف الإثني عشري.

لم يعد شلمناصر الثالث إلى سوريا قبل ٨٤٩ ق.م وحملته المهمة الأولى بعد سنة ٨٥٣ ق.م جرت في ٨٥١ ق.م، على طلب ملك بابل، ولم تحزر إلا نجاحاً محدوداً.

 سنوات حزائیل الأولى

 كانت دعاية الأعداء ترى في حزائيل مغتصباً للعرش. ومن الصعب ألا تربط انهيار الجبهة السورية باحتفاء هدد عزر الذي عرف دوماً أن يصون وحدة التحالف.

 إلا أن غموض الوثائق يحجب عنا تسلسل الأحداث الدقيق. ويُفترَض عادة أن حزائيل أطاح بهدد عزر، ربما باغتياله، أن حُلفاءَه الرئيسين، إذ شعروا بكونهم محرّرين من وعودهم، فضّلوا الانسحاب، سواء لعدم ثقتهم بالمغتصب أو لأن ثقل الجزية ظهر لهم أخف مما هو عليه وقت حرب لا تنتهي.

ويبدو أن موت هدد عزر ومجيء حزائيل إلى الحكم قد سبقا النزاع بين آرام وإسرائيل، بما أن يورام ملك إسرائيل وحليفه ملك يهوذا صعدا ضد حزائيل إلى راموث جلعاد، بحسب ٢ ملوك ٨: ٨ ٢و ١ ملوك ٢٢ .

 إلا أن  ظروف موت هدد عزر ومجيء حزائيل وخضوع حماة للإمبراطورية الآشورية تبقى غامضة.

أما الوثائق الآشورية، فإنها تنظر إلى سلطة حزائيل على دمشق مثل أمر واقعي. وهناك وثيقة واحدة تقدم حزائيل بصفة مغتصب.

 ففي نظر معظم شراح الكتاب المقدس، القصة التي تروي الاستشارة التي طلبها الملك بن هدد من النبي أليشع ( ٢ ملوك ٨ : ٧-١٥ ) تقول لنا كيف وضع حزائيل حدًا لحياة خصمه المدنف.

 إلا أن هذا النص نفسه لا يجعل بنوع صريح حزائيل قاتل سلفه.

شرعیة حزائیل بحسب كتابة تل دان

إن حزائيل هو بالتأكيد صاحب الكتابة التذكارية الآرامية القديمة التي اكتُشف في تل دان (إسرائيل) في سنة ١٩٩٣ ، ويبدو أنه يتكلم فيها عن الملك سلفه مثل "أبيه"، إلا أن هذه الوثيقة ناقصة.

ومن الظاهر أنها كتبت لتمجيد صاحبها، مما يجعلنا نّتخذ منها موقف الريبة والحذر.

إن نسبة هذا الأثر إلى حزائيل مبررّة قبل كل شيء لأن الكاتب آرامي وهو يعلن إنتصاره على ملك إسرائيل وينتهي اسمه بـ"رم".

لا يمن أن يكون إلا "يورام" بن آحاب.

 وإذا كان يورام حليفًا أمينًا لهدد عزر في الأقل حتى سنة ٨٤٥ ق.م. فإنه ناضل بعد ذلك ضد حزائيل.

فكنل نتوقع إذًا أن نجد في بداية الكتابة عبارات تعلن عن سوابق هذا الأمير.

ولكن للأسف فإن السطرين ١  ٢ هما مخرومان كثيراً. وحتى لسنا متأكدين من أن يكونا السطرين الأولين من الكتابة...

ويستشف من هذه الكتابة أنها تطرح، برغم كل شيء، صلة أكيدة بين ارتقاء صاحبها إلى الملوكية وموت أبيه، وتدعونا إلى الاعتقاد أن حزائيل كان ابن ملك آرام الراحل، ولكن سيطرته على الحكم كانت عسيرة.

لكن الدعاية المعادية أخذت معضلة الخلافة هذه وشوهتها، وجعلت من حزائيل مغتصباً.

وتنقصنا المعطيات المحايدة لكي نرى صحة الأحداث، ونميّز بين رواية الأعداء ورواية حزائيل نفسه إلى شرعية حكمه.

خلاف مع یورام ملك إسرائیل

إن كتابة نصب تل دان المشوَّهة تؤكد لنا وقوع الحرب مع يورام. وهذا في الواقع أول خلاف تروية هذه الكتابة.

وقد لا يكون من المستحيل أن نتعرف، في السطر الثامن، إلى اسم ياهو وإلى دوره في اغتيال يورام.

وحسب ما نستشف من الكتابة أن صاحبها يكون هو الذي هزم يورام أو جرحه. لكن خادمه ياهو هو الذي قضى عليه بهمجية، وبذلك أثار انطلاق حُلفائه سكان اليهودية.

ويظهر مما يلي هذا النص أن خلافات صاحب النصب مع الممالك الجنوبية لم تتوقف عند هذا الحد.

 إلا أن بقية الكتابة لا تتيح لنا التعرّف إلى أي حدث آخر.

حزائیل – في العزلة - حملة سنة ٨٤١ ق.م

إن الخلاف مع إسرائيل كان الأول الذي نشب بين حزائيل وجيرانه. ويمكننا الافتراض أن حماة كانت قد انسحبت بدون ضجة من تحالف الاثني عشر.

في سنة ٨١٤ ق.م، زحف شلمناصر الثالث، ولم يكن الآن ما يمنعه من ذلك منذ سنة ٨٤٣ ، إلى دمشق من خلال حماة.

 إذ كان ملك آرام قد فقد حُلفاء أبيه، فإنه تصرّف بدهاء، فأخّر تقدّم الآشوريين، إذ تحصّن في جبل "سانير" وهو قمة من قمم انتيلبنان.

 وما إن تمّ احتلال هذا المعقل، حتى التجأ إلى عاصمته التي لم يكن لعدوه الوقت الكافي ولا الوسائل الفعالة لاحتلالها عنوةً قبل نهاية ذلك الفصل.

 ومن هناك شاهد اجتياح الواحة المجاورة وجنوب البلاد. فان شلمناصر خرب "مدنًا لا تحصى" قبل أن يغادر حوران للذهاب إلى الجبل الواقع على الساحل المقابل لصور، حيث ترك نقشًا بارزاً لتخليد هذه الذكرى، قبل العودة إلى الشمال.

 إن صور وصيدا اللتين دفعتا

الجزية مع يهوذا في هذه المناسبة، لم تشهرا السلاح قط ضد آشور.

 أما الدول الواقعة نحو الشمال، فلا بدّ أنها تبعت ملك حماة في استسلامه، كما كانت قد تبعته سابقاً في مقاومته.

وما لم يكن ذكر صور تخمينًا مبهماً، وان شلمناصر الثالث قد بلغ الساحل من الجهة الشمالية ٩، فإن نقاط الوصول الأرجح هي رأس الناقورة جنوبي صور ومرتفع الكرمل.

وهكذا يكون الجيش قد اجتاز أراضيَ إسرائيلية. ويمكننا الاعتقاد أن الأمر قد جرى بدون مقاومة.

 وكان ملك آشور يدري أن إسرائيل كانت في حرب مع ملك آرام الجديد، ولا بدّ أن ياهو كان قد وعد بأداء الجزية قبل مثوله شخصياً أمام شلمناصر.

إن حملة سنة ٨٤١ ق.م كانت قد أوقفت النضال لأجل راموث جلعاد.

 وقد أصبح هذا النضال معلقًا طوال بضع سنوات. والخسائر التي تكبدها حزائيل، والهلع من عودة الآشوريين لم تسمح له بأن يعاود الهجوم ضد إسرائيل.

ولكنه كان ما يزال من القوة بحيث يستطيع أن يصدّ الطريق وجه ياهو الذي كانت مملكة قد ضعفت ليس بسبب الانقلاب الدموي ( ٢ملوك ١٠ ) فحسب، بل أيضًا بعداء "عتليا" في اليهودية وعداء "ميشا" في موآب.

(يتبع الجزء العاشر)


١- يرى البعض أن الأشوريين كانوا يرفضون منح دمشق اسم "آرام" الذي كان تقليدهم يربطه بالأحرى بمناطق من سوريا الشرقية ومن بين النهرين التي كانت قد انضمت الى إمبراطوريتهم، فصاغوا اسم "بلاد حميرة" أو "بلاد الحمارين" استنادًا إلى شهرة دمشق كمركز لتجارة هذا الحيوان المفيد للقوافل.

 ٢ يختلف الأمر إذا ما قبلنا أم شهادة: ١ أخبار ١٨:٣) عن منطقة حماة كمسرح الخلاف الوارد في ( ٢ صم: ٨  ٣-) أما معركة حيلام (١٠ : ١٥-) فيبدو أنها دارت في موضع يقع عبر الأردن.

٣ - أي هدد عزر. وتجدر الملاحظة أن هذا الشخص لم يذكر اسمه في (٢صم١٠:٦-١٤).

 ٤-    ١ صم ١٤:٤٧ الذي يرقى بنا إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد، يذكر ملك صوبة "بين الأعداء الذين انتصر شاول عليهم" – ويبدو انهم نفس أولئك الذين انتصر داود عليهم ( ٢ صم ٨)

  ٥ قد تكون "الحصن" على بعد ١٦ كم في الجنوب الغربي من "رامتا"

 ٦    بحسب ١ ملوك ١٥ : ١٨، بن هدد هو ابن طبريمون بن حزيون ملك آرام. وتجدر الاشارة إلى أن اسم   أبيه مأخوذ من لقب إله العاصفة.

 ٧ لم يعد شلمناصر الثالث إلى سوريا قبل سنة ٨٤٩ ق.م وحملته المهمة الأولى بعد سنة ٨٥٣ ق.م جرت في ٨٥١ ق.م، على طلب ملك بابل، ولم تحرز إلا نجاحاً محدودًا.

٨- وهذه هي حملاته العاشرة والحادية عشر والثانية عشرة.

 ٩قد يترتب علينا، والحال هذه، أن نواجه نهر الكلب، على بعد ١٥ كم شمالي بيروت. هناك علماء كثيرون يرجحون ان احد النقوش البارزة الممحوة كثيراً في هذا المضيق هو عمل شلمناصر الثالث

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها