عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970


الفصل السابع  دمشق وجنوبي سوریا

الجزء العاشر

حملة سنة ٨٣٨ ق.م

 لم ينعم حزائيل طويلاً بهذا الهدوء. ففي سنة ٨٣٨ ق.م، سار شلمناصر الثالث على درب الجنوب.

ويبدو أن حزائيل ودمشق أفلتتا منه مرة أخرى. وهذه المرة، بدل أن يفتخر الآشوري باجتياحات غير محدّدة، يستطيع أن يسمي أربعة مراكز من الدرجة الأولى في نشوة انتصاره، ولم يُحفظ منها سوى إسمين:

 دانابو وملاخو. والاشارات التي في حوزتنا لا تتيح لنا أن نحدّد باليقين المطلوب:

هل كانت هذه المدن واقعة في منطقة دمشق أو في حوران.

وإذا كانت "المدينة الملكية" ملاخو في حوران، سيتسنى لنا أن نفهم الأهمية التي أبداها شلمناصر لهذه المنطقة منذ سنة ٨٤١ ق.م، والعناد الذي به حزائيل وخلفُه نافس إسرائيل عليها.

 الهیمنة المستعادة

 لم يعد شلمناصر الثالث من بعد إلى جنوب سوريا قط بعد الحملة التي قام بها سنة ٨٣٨ ق.م. فطوال ما تبقى من هذا العقد، ركَّز جهوده على بلاد الأناضول.

بعد ذلك، في عهده وعهد شمشي أدد الخامس ( ٨٢٣  ٨١١ ق.م)، حظيت السياسة الداخلية بجلّ الاهتمام، على حساب الغزوات التي ابدأت قبل ذلك بقرن.

 وقد أتاح ركود الإمبراطورية الآشورية لملوك آرام أن يستعيدوا الهيمنة على سوريا، بل أن يفرضوا سلطتهم إلى أبعد.

 التوسع نحو الجنوب

 إن التوسع الآرامي نحو الجنوب معترف به في عدد من النصوص في "العهد القديم"، من بينها:

( ٢ ملوك ١٠:٣٢) يتسم بأفضل الضمانات. ولا  عجب إذا كان معبد "دير ع ّ لا" الواقع شمالي مصب وادي زرقا (وهو يبوق الكتاب المقدس) نشِطًا في ذلك الموسم.

وكان هذا المعبد يعود إلى شعب متعدد الآلهة، كان يحتفظ بأقوال الرائي بلعام المكتوبة بلهجة آرامية قديمة وهامشية.

إن التصنيف اللغوي لهذه النصوص ليس اجتماعياً، ولكن تجدر الإشارة إلى أن كتابتين بطابع إداري هما آراميتان من دون شك.

 وحتى إذا ظل أصل الكتابات البلعامية لدير ع ّ لا غامضاً، فإن ازدهار مثل هذه الجماعة في أرض تطالب بها إسرائيل مبدئياً لا يشكل معضلة إذا ما عرفنا السيطرة الآرامية على جلعاد في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد.

وبحسب ( ٢ ملوك ١٣  -٢٤ )، لقد دامت سيطرة آرام على  إسرائيل طوال عهد يوحاز كله، بعد عهد ياهو ١٠ .

 نعلم أيضًا أن حزائيل قد مد غزواته نحو ساحل البحر المتوسط حتى مدينة "جتّ" في فلسطين، وسلب خزائن يوآش ملك يهوذا إذ هدّده باجتياح مملكته ( ٢ ملوك ١٢:١٨).  وهناك نصب في تل دان يشهد لحكمه على شرقي الأردن.

 حزائیل یجتاز الفرات

 لقد أظهرت الاكتشافات بُعداً جديداً لعهد حزائيل. فعلى الجبهة الشمالية، لم يكتفِ الملك آرام بالبقاء خاملاً بعد الهجومات الآشورية، بل اتخذ موقفًا هجومياً بدوره، وزحف إلى ما وراء الفرات.

من الأرجح أن حملة حزائيل هذه جرت خلال السنوات الأخيرة من حكم شلمناصر الثالث، أو في عهد ابنه، إذ كانت بلاد آشور ذاتها في ثورة وغليان.

 ونتذكر أنه في عهد شمشي أدد الخامس، يتكلم أدد  نراري الثالث عن تمرد يجري على الفرات.

ولا نستبعد تاريخًا أقدم، لأن الحملة الأخيرة لشملناصر في سوريا، التي أثارتها الإطاحة بملك "عنقي" المخلص للإمبراطورية الآشورية، جرت نحو سنة ٨٣١ ق.م. وربما أن حزائيل لم يكن غريبًا عن هذه الأحداث، وأن تد ّ خل شلمناصر المحدود الذي وضع نقطة النهاية لعشر سنوات من الجهود في بلاد الأناضول، لم تكن سوى معركة مؤخرة الجيش.

 النفوذ الآرامي المتنامي

 لقد جعل حزائيل الشعوب تشعر بقدرة دمشق من شمالي سوريا حتى أبواب فلسطين، ولو أن اللغة والثقافة الفينيقيتين كانتا تنعمان بنفوذ كبير في قبرص وحول خليج ألِكسندريت.

وأن العلامات الأولى للاستعمال الدولي للآرامية تعود إلى نحو قرن بعد عهد حزائيل ١١ .

فإن نجاحاته الدبلوماسية والعسكرية لا بدّ أنها أسهمت في فتح الطريق أمام هذه الفترة من التاريخ الثقافي للشرق الأدنى ١٢.

 حزائیل مؤلَّه

 لا شك أن في عهد حزائيل أتخذت العبارة الاعتيادية "سيدنا حزائيل" معنى جديداً هو "الرب"، وسيحمل ابنه هذا اللقب. حتى إذا افترضنا أن هذا اللقب يمثل بر هدد، ابن حزائيل، وليس هدد ريان الوهة دمشق الرئيسية، فإنه يعطي الانطباع الذي خلفه في نفوس رعاياه هذا الخصم العنيد لشلمناصر الثالث.

وكان تأثيره في الخارج، مثل تأثير ملوك أرباد وحماة، يجري من خلال شبكة معقدة من العلاقات، تشمل تواطؤات بسيطة بين الأمراء من الدرجة الأولى، كما تشمل التبعية الوثنية للدول الخاضعة.

برهدد یفقد هیمنة آرام

ھزائم في حزرك وفي منصواة

كان التأثير ما يزال في ذروته حينما خلف بر هدد حزائيل، في تاريخ غير محدود، لكنه قريب من تاريخ ارتقاء يوآش على عرش إسرائيل وفي منعطف القرن الثامن قبل الميلاد.

 وقد رأينا كيف استطاع ملك آرام الجديد، بمساعدة ملك أرباد وحلفائه الحثيين الحديثين، أن يصف جيوش ست عشرة دولة أمام حزرك، شمالي حماة، في محاولة تهدف إلى تحطيم قوة زكور المتصاعدة، وكان حزائيل قد ظل محايدًا بفطنة، حينما كان أدد نراري الثالث، بعد أن استولى على زمام الملك، قد قمع أرباد وجيرانها ( ٨٠٥ ٨٠٤ ق.م).

إلا أن مغامرة حزرك عرّضت بر هدد للنقمة الآشورية. وفي سنة ٧٩٦ ق.م، غُلب في البقاع، واضطرّ للمرة الأولى إلى أن يفتح للغازي أبواب عاصمته وخزائنها

 هزیمة أمام إسرائیل

 لا يسعنا أن نحدد بالتأكيد أين تقع قضية زكور من سلسلة أخرى من الهزائم التي لحقت ببر هدد على الجبهة الجنوبية.

 وهناك صور كثيرة من سفر الملوك، ابتداءًا من ( ١ ملوك ٢)، تروي الخصومات الدائرة بين آرام وإسرائيل.

وكالمعتاد نلاحظ عند آرام موقع القوة في البداية. إلا أن إسرائيل تنتصر في النهاية. وملك آرام، حينما يُسمى، هو بن هدد (أي بر هدد بالعبرية). أما ملك إسرائيل فهو آحاب أو ابنه يورام.

 لقد قلنا سابقًا أن ( ١ ملوك ٢)، الذي يروي موت آحاب أمام راموث جلعاد، إنما يخص موت يورام بالأحرى، ومعظم المؤرخين يعتبرون (١ملوك ٢٠ )، وقصص الخصومات الأخرى بين بن هدد وبعض ملوك إسرائيل، وغالبًا أيضًا ( ١ ملوك ٢٢ )، قصصًا تخص بالحقيقة خلفاء ياهو وليس أحاب.

ولكننا لن نستطيع تشخيص كل من الانتصارات الثلاثة التي أحرزها يواش بحسب (٢ ملوك ١٣: ١٩،٢٥ )، ولن يتم الاتفاق على طريقة تقليص حصارات السامرة التي يرويها(١ملوك٢٠-  ١ ٢١  و  ٢ملوك ) ٦ :  ٢٤-  ٧ : ٠ ٢ ) في حصار واحد، مهما بدت هذه العملية معقولة.

 وقد يتسنى لنا  أن ننسب إلى عهد يوآش (نحو ٧٩٨  ٧٨٣ ق.م) الأحداث التي تعكسها هذه الروايات

وإذا كانت المصادر المعاصرة لهذه الأحداث لا تذكر اسم بر هدد في عهد آحاب، فإن الكتاب المقدس يشهد لوجود ابن لحزائيل اسمه بن هدد (راجع عاموس٤ : ١)، الذي ورث قوة تفوق قوة خلفاء ياهو، ولكن يوآش انتصر عليه. ويضع ( ٢ ملوك ١٣:١٧ ) في "أفق" شرقي بحيرة طبرية انتصارًا حاسمًا أحرزه يوآش، وربما أن هناك كان آحاب قد انتصر، بحسب ١ملوك ٢٠: ٢٦- ٣٤ . فيجب إذًا أن نعتبر انتصارات آحاب على بن هدد  مثل انتصارات يوآش على بر هدد.

ويمكن أن نخلص إلى هذا الاستنتاج:

 أن بر هدد خلف حزائيل في نحو نهاية القرن التاسع قبل الميلاد، والوضع المسيطر الذي ورثه ظل إلى نجاحات "زكور" المقلقة. والنفوذ الذي كان آرام ينعم به أتاح له أن يجر وراءه الدول الشمالية في هجومه على حماة ولعش.

 إلا أن ردة الفعل الآشورية، سنة ٧٩٦ ق.م، أدت إلى إذلال دمشق وسلبها بنوع لا سابق له.

وأراد بر هدد أن يجدد موارده المالية على حساب جاره الجنوبي، المعتاد أن يرضخ لمطاليب أبيه.

فحضر إذًا أمام السامرة مع الرؤساء الذين كانوا ما يزالون يطيعونه(١ملوك٢٠:١).

 إلا أن الإفراط في مطاليبه اضطر يوآش إلى القيام بمقاومة يائسة.

وإذا بالقوات الآرامية التي كانت قد نقصت من جراء الضربات التي تلقتها من أدد نراري، دُحرت بعيدًا عن العاصمة الإسرائيلية.

 وفي السنة التالية، دُحرت من جديد في "أفق"، أي جشور القديمة ١ ملوك ٢٠: ٢٦- ٣٠).

انحطاط مملكة آرام وسقوطها

الغزو الإسرائیلي

 بحسب ٢ ملوك ١٤: ٢٥-  ٢٧ ، يربعام الثاني ( ٧٨٣  ٧٤٣ ق.م) هو الذي استرد حدود إسرائيل، "من مدخل حماة إلى بحر العربة (الميت)".

قد يُنسب جزء من هذه المآثر إلى سلف يربعام. ولكن قد يكون التقدم الإسرائيلي محدودًا في عهد يوآش، وحتى في السنوات الأولى من عهد يربعام الثاني.

 إذ يبدو أن ملوك دمشق كانوا في سلام مع الإمبراطورية الآشورية بين سنة ٧٩٦ و ٧٧٢ ق.م. وكانت لهم قوات كافية للحفاظ على الجبهة الجنوبية.

 وإذا كانت "أفق"، حيث دحر يوآش جيش بر هدد، ويُحّدد موقعها في "عين گيف" في حشور، فليس من الواضح هل ظلت هذه البلاد الصغيرة في أيدي إسرائيل.

فلقد اكتُشفت كتابات آرامية تعود إلى القرن الثامن في "تل حدر" وكذلك في بيت صيدا، شرقي مصب نهر الأردن في بحيرة طبرية.

ولكن منذ سنة ٧٤٣ ق.م، تعرضت إسرائيل لانقلابات عديدة بعد مقتل زكريا بن يربعام الثاني، ودب الضعف في هذه الدولة.

وفي السنة نفسها، قام تغلاُثفلاصر الثالث، الذي استولى على الحكم سنة ٧٤٥ ق.م، بتوطيد سيطرة آشور على سوريا، إذ هاجم أرباد وبقية الحلفاء في أورارتو.

إلا أن هذا لم يمنع الآراميون والإسرائليين من الإقتتال، وأظهر الآراميون بعض التفوق على الإسرائليين المنشغلين بالفتن الداخلية. وسيقول إشعيا النبي بعد سنوات قليلة:

 "أثار الرب عليهم خصمهم "رصين" وسلَّح أعداءَهم الآراميين من الشرق والفلسطينيين من الغرب ليلتهموا بني إسرائيل بملء أفواههم" (إشعيا ٩:١١).

 في سنة ٧٣٨ ق.م، تقدم تغلاثفلاصر خطوة نحو الجنوب وقضى على تحالف جديد كان يتمركز في جنوب حماة وغربيها. فاضطرت الممالك الكائنة غربي البلاد الآشورية إلى إظهار استعداداتها الحسنة.

وتزودنا حوليات تغلاثفلاصر سنة ٧٣٨ ق.م والوثائق الموازية لها بلائحة الذين يدفعون الجزية، ومن ضمنها آرام وإسرائيل. وبلغ الملك الآشوري إلى البقاع انطلاقًا من حماة.

وهذا ما جعله يمر بالسفح الغربي من دمشق، خلال منطقة ربما لم تتخلَّ عنها إسرائيل حتى الآن ١٣.

 المعاهدة السوریة الأفرائمیة

 إن منحيم الذي أّدّى الجزية للملك مع "رضيان" ملك دمشق ١٤، توفي بعد مدة قصيرة، وخلفه إبنه "فقحيا".

وهذا أيضًا لم يب َ ق على العرش مدة طويلة.

ففي سنة ٧٣٧ ق.م، ثار عليه فقح بن رمليا قائد حرسه، وهاجمه مع خمسين رجلاً من بني جلعاد، في برج قصر الملك في السامرة، فقتله وملك  مكانه (راجع ٢ ملوك ١٥:٢٥).

ويبدأ فقح على الفور حتى قبل موت يوثام ( ٧٤٠ - ٧٣٦ ق.م)، لمعاهدة يهوذا بالاتفاق مع ملك آرام ( ٢ ملوك ١٥: ٣٧).  

وحينما خلف آحاز الملك الراحل يوثام، إستحال هذا الضغط إلى اجتياح حقيقي ( ٢ ملوك ١٦: ١- ٥؛ إشعيا ٧ : ٢-١ فلا بد أن آرام وإسرائيل كانتا تريدان دفع يهوذا إلى الإنضمام إليهما ضد آشور.

ويبدو أن مصلحة هاتين القوتين قد تبعت صعود تغلاثفلاصر الثالث. فكان فقح قد أطاح بعائلة ملكية خاضعة للإمبراطورية الآشورية.

فدعا آحاز تغلاثفلاصر إلى مساعدته ( ٢ ملوك١٦ : ٧). واعتبر الملك الآشوري كلتا المملكتين آرام  وإسرائيل، متمردتين ١٥.

 وبعد العداء الناشب بين دمشق والسامرة منذ حزائيل، لا بد أن المعاهدة الآشورية الأفرائمية اقتضت تصفية الأراضي بما يرضي الطرفين.

 لكن النصوص المتعلقة بالغزو الآشوري لسنة ٧٣٣  ٧٣٢ ق.م لا تحتفظ بأثر من الحضور الإسرائيلي في البقاع.

 أسباب الحرب السوریة  الأفرائمیة

 إن كتبة الحوليات الآشورية وكتبة "العهد القديم"، الذين يوجهون جلَّ اهتمامهم إلى يهوذا، لم يشرحوا لماذا آرام وإسرائيل نبذتا خلافاتهما واستعدتا لمجابهة مولاهما الآشوري، في حين أن هذا الأخير قد برهن عن قدرته وتصميمه في الشمال.

ويبدو أن الجواب هو على الصعيد الاقتصادي. فإن ملوك سوريا الجنوبية كانوا مصريّن على الاحتفاظ بالأرباح التجارية من الجزيرة العربية، التي كانت الإمبراطورية الآشورية تهدد بأخذها منهم إذا ما امتدت إلى أبعد نحو الجنوب.

ويستند هذا التأويل من جهة إلى أهمية تجارة القوافل للمسيطرين على "طريق الملك" والمدن المينائية لفلسطين، ومن جهة أخرى، على الخطة العسكرية التي تبناها تغلاثفلاصر الثالث الذي احتل أولاً الموانئ الفلسطينية، وأخضع المملكة العربية "سمسي" التي كانت غنية بالجمال والمنتوجات الكمالية، وسلم إلى زعيم عربي آخر مراقبة الحدود المصرية.

فما كان في وسع الجهة المشتركة لبلدان الجنوب أن تسامح الموقف المخالف عند يهوذا التي كانت تحظى بموقع فريد بين البلاد العربية وفلسطين ١٦.

غموض التواریخ واختزال الحولیات

إن غموض التواريخ الواردة في العهد القديم عن هذه الحقبة والطابع الجزئي لحوليات تغلاثفلاصر الثالث وكتاباته نُخفي عنا مجرى التدخلات التي تحكمت بسير الحرب السورية  الأفرائمية.

من الواضح أن الملك الآشوري قام في عام ٧٣٤ ق.م بحملة على طول الساحل حتى غزة. ولكننا لسنا متأكدين من أن هجوم المتحالفين الحاسم ضد يهوذا كان قد حدث قبل ذلك، وأنه كان قد أدى إلى التقدم الآشوري.

إن الرهانات الاقتصادية قد تجعلنا نفترض أن تغلاثفلاصر كان قد زحف للاستيلاء على المصارف الفلسطينية، حتى قبل أن يُعلن عن محور دمشق  السامرة.

وقد نستطيع أن تصور أن العصاة ظهروا إذ كفوا عن تأدية الجزية. إلا أن كلا الافتراضين ليسا مرضيين، إذ يصعب علينا التفكير في أن آرام وإسرائيل استطاعتا زجّ قواتها في بلاد يهوذا، بعد أن علمتا باقتراب الملك الآشوري أو بعد أن تحّديتاه.

فمن الأفضل التفكير في أن المتحالَفين هاجما يهوذا إذ كان العدو ما يزال بعيدًا، وان تغلاثفلاصر لم يباشر الحملة إلا بعد أن اطلع على مبادرتهما بواسطة مبعوثي آحاز أو واسطة معتمديه. واختياره زحفًا سريعًا على طول الساحل أفضل من هجوم مباشر ضد دمشق سيكون قد هدف إلى صّد كل إمكانية تدخل مصري.

تصفیة مملكة آرام

لقد انتظر الغازي حتى سنة ٧٣٣ ق.م ليضرب مباشرةً آرام وإسرائيل.

ولكنه لم يستطيع أن يحرز نصرًا تامًا حاسمًا منذ الموسم الأول. لقد غُلب رضيان في دمشق حيث حاصره الجيش الآشوري ٤٥ يومًا. لكن دمشق لم تسقط إلا سنة ٧٣٢ ق.م وسُبي سكانها، ودمّرت البلاد تدميرًا رهيبًا.

دمشق في الإمبراطوریة

لقد استُبدلت مملكة آرام بسلسلة جديدة من الأقاليم الآشورية، وأربعة منها في الأقل مذكورة في الوثائق، وهي في الغالب في علاقة مع أسماء حكامها: دمشق نفسها، في الغرب منصواة وصوبيت، في جنوب "قرتيني" المتمحورة على شيخ سعد في حوران.

وربما شرقي حوران كان يشكل إقليم حورينا، إلا أن وضعه، مثل وضع جلعاد، ليس مثبتًا جيدًا.

 إن مشاركة ما تبقى من سكان مملكة آرام في ثورة "يوبيعدي" في حماة، هذه الثورة التي سحقها سرجون الثاني سنة ٧٢٠ ق.م ولم تُمثل إلا بذكر دمشق بين الثوار.

في عهد آشور بانيبال، سيش ّ كل الموقع الجغرافي لدمشق بينها محورًا للعمليات الإمبراطورية في العالم العربي.

إن منافع هذه المدينة كانت كبيرة بحيث إنها لم تفقد قط مكانتها في قلب الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية في الشرق الأدنى، على النقيض من "المدن الملكية" الأخرى في سوريا في العصر الحديدي.

 اللغة الآرامیة في البلاد الآشوریة

 لقد انتهت الدول الآرامية بفقدان هويتها الخاصة بها على أيدي الآشوريين.

 ولكن ربما أن سكانها أصبحوا يشكلون العنصر السائد في الإمبراطورية، وانتشرت لغتهم في كل مكان. وبقدر الوحدة السياسية في الإمبراطورية الآشورية والنظم التي تبعتها، هذه سهلت سيادة اللغة الآرامية هذا المزيج من الأعراق والثقافات، الذي يسم ما بقي من الألف الأول قبل الميلاد، وفي الواقع كل ما بقي من التاريخ القديم.

لقد استعرضنا في الصفحات السابقة، وتكلمنا عن ازدهار اللغات ذات الكتابة الأبجدية، بدءًا بالفينيقية، بعد تراجع العلامات المسمارية في الشرق.

وطرحنا الفرضية أن ربع القرن من الانتصارات العسكرية التي أحرزها حزائيل أسهم إسهامًا فعالاً في زيادة نفوذ اللغة الآرامية.

ولا يمكننا أن نشك في أن سياسة السبي التي اتبعها الملوك الآشوريون ساعدت هي أيضًا في ترسيخ انتشار اللغة في المناطق التي سيطروا عليها.

في شأن السبي، كما في شأن السلع اليهودية والخيرات الواردة عن طريق الجزية ليست معطيات الكتابات الملكية الآشورية كاملة بالتأكيد.

والكثافة السكانية لمختلف مناطق الإمبراطورية ليست مثبتة جيدّا لكي يتسنى لنا أن نحسب بدقة مدى تأثير السبايا في أوطانهم الأصلية وفي نطاق وصول هذه الشعوب المنقولة.

والأحداث التي نحن مطلعون عليها تتيح لنا مع ذلك أن نبدي بعض الملاحظات.

من الزاوية التي تهمنا ههنا، نلاحظ قبل كل شيء أن السبي الذي قامت به القوات الآشورية مرات عديدة لم يمس آراميي سوريا بصورة جذرية مثل بعض الشعوب الساكنة في الجنوب وفي شرق الإمبراطورية

الآشورية، وبالمقابل، إن آراميي جنوبي بين النهرين والكلدانيين الذين كانوا قريبن منهم لغويًا، ليسُوا بأعداد كبيرة نحو مناطق أخرى من الإمبراطورية، وغالبًا إلى النواحي الشمالية الغربية.

وهناك كانوا يمتزجون بشعوب آرامية تقليديًا، مثل الكميوليين الذين جيء بهم إلى الجزيرة، أو كانوا يُنقلون إلى بلدان لم تكن فيها اللغة الآرامية مجهولة، مثل كلدانيي "بيث ياقين" الذين جلاهم سرجون الثاني نحو الأراضي القديمة في "كوموخ" و"ميليد" (ملاطية)، واستخدام لهجات اللغة نفسها لم يكن يساعد على خلق علاقات حسنة تلقائيًا بين الشعب العريق وبين القادمين الجدد.

ومع ذلك فإن هذه الحالة كانت تسهم في تغيير التوازن اللغوي لصالح اللغة الآرامية، وكانت تسرع في استيعاب المسبيين ذوي لغات أخرى.

إن ارتقاء أشخاص من أصل آرامي في السّلم الاجتماعي الآشوري يُلاحَظ بوضوح خلال القرن الأخير من الإمبراطورية.

فأسماء الأعلام الآرامية لم تعد محصورة في عالم التجار والجنود وصغار القوم، بل تظهر أيضًا في أعلى طبقات المجتمع، حيث نجد مثلا بين جمهور من عْلية القوم، الكاتب الشهير "أحيقار"، ونقيعة زوجة سنحاريب، وأدد  كوپي والدة نابونيد ملك بابل.

وتقدم اللغة الآرامية يدهش أكثر.

فإن أهميتها تزداد في قلب الإمبراطورية. وهذا الأمر لا يمكن شرحه بمجرد ازدياد الشعب من جراء السبي أو من جراء التجنيد. فالكلمات الآرامية تغزو المفردات الأكدية.

وبجانب بطاقات وجيزة أو موجزات وضعت لمساعدة الكتبة، نجد في الغالب عقودًا مكتوبة بكاملها باللغة الآرامية. وبالتأكيد تُعد شرعية على حالتها.

وفي حالة "ألواح بروكسل" التي يمكن متابعة التغيير فيها خلال معظم أجزاء القرن السابع، فإن نسبة النصوص المكتوبة بالآرامية فقط تزداد، على ما يبدو، على مر الزمن، فتزداد أسماء الكتبة الآراميين.

وفي منتصف القرن السابع، هناك رسالة طويلة موجهة إلى شخص آشوري ذي منصب رفيع، ومرسلة من بابل، من قبل رفيق له، تظهر كم أن استخدام اللغة الآرامية من شأنه أن  يبسّط الحياة ١٧ .

ولا يسعنا هنا أن نتابع تاريخ ازدهار اللغة الآرامية في العهد الأخميني. ولكن في وسعنا أن نلاحظ أن في العهود البابلية  الحديثة، لم تؤكد هذه اللغة دورها في الحياة الاقتصادية فحسب، بل صارت تُستعمَل بعزم في المرافق الإدارية.

وهذا ما يظهر في قرار كُتب باللغة الآرامية، يأمر، تحت طائلة الموت، نخبة إحدى المقاطعات  وهم موظفون ملكيون، ورؤساء بلديات، وم ّ لاكون  بأن يوقفوا كل قادم جديد آتِ من البلاد البابلية يُكت َ شف عندهم.

من "آرام" إلى "سوریا"

بينما كانت اللغة الآرامية تفرض ذاتها على مناطق تزداد اتساعًا، كان

الانتصار السياسي للغزاة سيؤثر في مفردات اللغة الآرامية. ومع تغيير طفيف، سيبقى اسم  "آشور" مرتبطًا بالبلدان الآرامية إلى هذا اليوم ١٨.

كان الملوك الآشوريون قد ألغو حتى أسماء الممالك القديمة.

فلم يبقَ لهم سوى أقاليم يشار إليها بأسماء مدنها الرئيسية.

فكانت التسمية الإمبراطورية تدعو جميع سكان الإمبراطورية باسم "شعب آشور".

 وتظهر دومًا وثائق جديدة حيث تستمر بلدان المشرق وسكانها في حمل اسم آشور حتى عهود إمبراطوريات لاحقة.

 فنلاحظ مثلاً الكتابة العيلامية لداريوس في "شوش". فإن هذا النص يدعو "أش  شو  را  إيب" مواكب من وراء الفرات كانوا ينقلون إلى شوش عوارض من أرز لبنان.

إن اّتساع آشور وشموله الأراضي الآرامية القديمة ساد منذ نهاية القرن الثامن ق.م، حينما ازدادت التبادلات بين المدن الهلينية والساحل الشرقي للبحر المتوسط.

إن كلمة "آشور" وتطبيق هذه التسمية على بلاد آشور ونينوى لم تختفِ تمامًا.

 إلا أن الاستعمال الشائع لدى الإغريق بسّط كلمة "آشور" ب"سوريا"، والنقول الأورپية للكتاب المقدس التي حددت لغة المسيحية وانتهت بتسمية "الآراميين" بـ"السريان" حتى الروايات المتعلقة بعهود سابقة للإلحاق الآشوري.

(يتبع الجزء الحادي عشر)


 ١٠ - لم يب َ ق ليواحاز سوى ٥٠ فارسًا وعشر مركبات وعشرة آلاف رجل، وهذه الأمور تذ ّ كرنا بما جرى لآحاب في معركة قرقر.

 ١١ - تجدر الإشارة هنا إلى انتشار اللغة الآرامية الدولية في نحو سنة ٧٠١ ق.م  (راجع ٢ ملوك ١٨:٢٦ )

 ١٢ - یعتقد الكثیرون أن الآرامیة للقرون الأحدث نمت انطلاقا من لھجة كانت متداولة في ما وراء الفرات. وكان الآشوریون قد اعتادوا ھذه اللھجة في عھد أسبق. وسھلوا انتشارھا في إمبراطوریتھم.

 ١٣ - لم يبقى ليواحاز سوى ٥٠ فارسًا وعشر مركبات وعشرة آلاف رجل، وهذه الأمور تذ ّ كرنا بما جرى لآحاب في معركة قرقر.

 ١٤قد يكون "رضيان" شخصًا اغتصب عرش دمشق. وليس لدينا معلومات كثيرة عنه.

 ١٥  دمر مملكة آرام وقتل ملكها رضيان الذي يسميه سفر الملوك ( ٢ ملوك ١٦:٩) "رصين". لكن الملك الآشوري اكتفى يتقطيع مملكة إسرائيل التي تخلصت في الوقت المناسب من "فقح" والتي كانت منذ ياهو،فقد أظهرت غالبًا استعدادها لخدمة المملكة الآشورية.

 ١٦  تكفي هذه الاعتبارات لفهم ما جاء في سفر الملوك ( ٢ ملوك ٦ :١٦ ) عن التدخل الآرامي في "أيلة"، ولو أن سفر الملوك يقول وأن ملك أدوم هو الذي استرّد ألية وطرد منها بني يهوذا. ولكننا هنا أمام إلتباس بين آرم وأدم!

 ١٧  يجب مقابلة هذه الحالة بتلك التي تعكسها رسالة فيها يزجر سرجون الثاني "سين ايدينام" عميله فيأور، على تردده في المراسلة ياللغة الأكدية.

  ١٨  لقد أقنعت هذه الطريحة عددًا كبيرًا من المؤرخين. ولكن بعد محاولات عديدة، لم يُعرض أي بديل مًرضٍ.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها