عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

 

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970


لفصل الثامن  طبیعة الدول الآرامیة

 الحادي عشر

طبيعة الدول الآرامية

نواصل حديثنا عن الآراميين الذين قاموا بدور مهم جدًا في الشرق الأوسط وفي منطقة بين النهرين بنوع خاص.

 لعلنا نلقى جذورًا تربطنا قليلاً أو كثيرًا بهؤلاء الناس الذين استطاعوا، برغم قّلة تنظيمهم على الصعيد السياسي، أن يتغلغلوا في الدول الكبرى، ويمارسوا عليها بعض الضغوط، وأحيانًا أن يرجًحوا كفة الميزان لهذه الدولة أو تلك.

التماثل آرام - إسرائیل

في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، كما في العهود السابقة، كان المجتمع الآرامي لا يختلف كثيرًا عن المجتمع الذي يطلعنا عليه العهد القديم والتنقيبات الأثرية في بلاد فلسطين.

فإن رواة الكتاب المقدس، الذين كانوا يلجأون حتمًا إلى كلمات مقترضة من حديثهم عن مصر أو عن الآشوريين والبابليين، قد اكتفوا بمصطلحاتهم المألوفة عند تعلق الأمر بالآراميين.

وكان التشابه بين هذين المجتمعين واضحًا على صعيد بُنى الدولة. والآشوريون الذين غالبًا ما تدخّلوا في تاريخهم، كانوا على وعي بذلك، وكانوا يطّبعون تركيب الجمل نفسه على ممالك فلسطين وما يُستعمل عِبر الأردن من اللغات العِبرية أو ما يقرب منها، وعلى الدول الآرامية في الجزيرة وفي سوريا الغربية. وسنتناول النقاشات التالية:

 أولاً تركيب الجمل لدى الآشوريين. والشهادات عنه كثيرة. ولكن مما لا شك فيه إن الكلام نفسه كان متداولاً في العالم السامي الغربي.

فإن استعمال تعابير من نموذج "بيت في شأن مملكة أرپاد معروف منذ أمد طويل.

 "بيت غش" تُقرأ على النصبَين الأوَلين من أنصاب "سفيرة". وما يقابله "برغش" (بكلمة واحدة) يستخدمه زكور كلقب ملك أرپاد.

والكتابة الآرامية التي اكتُشفت في دان سنة ١٩٩٣ ترينا الآن أن صاحبها (وهو حزائيل دون شك) كان يسمي أيضًا مملكة يهوذا "بيث داود"، ويبدو ان معاصره "ميشا" ملك موآب استخدم التعبير نفسه.

المصطلح الآشوري

إنطلاقًا من القرن التاسع، لا تتكلم النصوص الآشورية عن "الآراميين" بنوع عام، كما كان قد فعل في القرن الحادي عشر تغلاثفلاصر الأول وآشور بل كالا.

فإن شلمناصر الثالث يتكلم عن "ملك آرام" كان قد انتزع "پيترو" و"موتكينو" من أحد أسلافه. ولكننا نعتقد ان شلمناصر إنما يعيد هنا كلام مصادره.

 وفي لائحة تحمل أسماء الذين أدّوا الجزية سنة ٧٣٨، يسمي الملك الآشوري "بلد آرام" بين بلدان "حتي" و"قيدار بلاد العرب".

إلا أن هذا الوصف الشامل تتبعه أسماء أكثر وضوحًا.

في تركيب الجُمل الذي يستقر في القرن التاسع قبل الميلاد، غالبًا ما ما، نلقى صيغة "بيث - ×" وهي تشير إلى بلد كما نقول "بيت فلان".

وهكذا  فان "غوزان" تعود إلى "بيت  بخياني".

وأرپاد إلى "بيث  أغوشي"، ولو أن مملكة دمشق غالبًا ما تُدعى "مات  ايمريشو  بلد حميرِه"، وذلك منذ ظهورها الأول في النصوص التي ترقى إلى عهد شلمناصر الثالث، فقد انتهوا إلى تسميتها "بيث  حزائيلي" بحسب ملكها الأشهر.

ومن جهة ممالك فلسطين وعِبر الأردن، تُدعى إسرائيل "بيث همري" (عمري)، وتُدعى عمون "بيث عمّانا".

وللإشارة إلى رعايا هذه الدول، كان الآشوريون يستخدمون صفات  مثل "أرپادي" و"دمشقي" (إيمريشو-إن) و "سمألي" و "إسرائيلي".

ولكنهم كانوا في الغالب يفضّلون تسميتهم "بر×"، وهي لفظة متضمنة في "بيت."×

وهكذا فان ملك بيت أغوشي يُسمى "إبن أغوشو" (غوش)، وياهو ملك إسرائيل يُسمى "إبن همري" (عمري).

في الكتابات الآشورية "× ان الأشخاص الذين يسمون هكذا "إبن  هم عادة من القادة.

ولكن قد تشير هذه التسمية أحيانًا إلى جماعات "أبناء أديني" الذين أرسلوا قردتين إلى "أدد  نراري الثاني" سنة ٨٩٩ ق.م، و"أبناء بخياني" الذين زوّدوا آشور ناصربال الثاني بقوات في نحو سنة ٨٧٠ ق.م، وفي الآرامية "بني غوش"، رعايا الملك أرپاد الذين كانوا يتقاسمون مسؤولية معاهدات "سفيرة".

لكن المفاهيم الإقليمية قفزت إلى الواجهة وصارت "ابن×" تشير بالأحرى إلى عائدية الشخص الجغرافية أكثر منها إلى أصله العِرقي أو إنتمائه السياسي.

كیانات قبلیة

القبائل

إن الكتابات الآشورية لا تطبّق تركيب الجمل المرتكز على "بيت على قبائل ما بين النهرين الشرقية. وبالمقابل فهي تواصل وصفهم مثل "آراميين" حتى نهاية الإمبراطورية. وكانت تشير إليهم بمقطع "لو".

وكما كان الشأن سابقًا مع العموريين، فإن بعض هذه الأسماء يبدو مأخوذًا من أسماء المكان. إلا أن معظمها غامض.

إن هذا الإختلاف بين المصطلحات المستعملة للآراميين في الغرب وللآراميين في شرق بين النهرين قد يجد شرحه في المستويات المتفاوتة لديها على صعيد النمو السياسي. صحيح أن بعض الكتابات المتَّسمة باسم من نموذج "بيت×" كانت جزءًا من تشكيلات سياسية أكثر تعقيدًا، مثل "بيت  حالوبي" عند مصب نهر الخابور، وكانت تعود إلى "لاقو".

وهناك أخرى لم تترك على الخارطة سوى ظل طارئ، مثل "بيت  ياحيري" أو بيت "شابايا". وبرغم ذلك، فقد توصل آراميو سوريا في الغالب إلى تأسيس ممالك، في حين أن آراميي بين النهرين الشرقية، حتى الذين ينتمون إلى القبائل الكبيرة، ظلوا دومًا هامشيين قليلاً بالنسبة إلى الجماعات المتحضرة.

 الرؤساء

 لم يكن رؤساء هذه الفرق ملوكًا (ملك  شَروّم)، بل شيوخًا (نزيكو) ١.

وليس لدينا معطيات كافية عن سلطات هؤلاء القادة ومَهَمَاتهم ان ثمة نصبَين لآشور ناصربال الثاني يُظهران لنا الدور الكبير الذي كانوا يقومون به لدى نشوب بعض الخلافات.

إمارات حضاریة أو دول إقلیمیة؟

على النقيض من "نزيكاتي" (نزيكو)، كانوا يطلقون في ذلك الزمان ماعدا سمأل "بيت ."× تسمية "الملوك" على قادة الدول من نوع "بيت  كبّاري"، لم يكن هؤلاء الملوك يحكمون مجرد إمارات حضرية.

وكان كلٌّ من هذه التشكيلات يحمل إسم نواته الحضرية الوحيدة التي لم يكن لها سوى أراضٍ محدودة، ولم تكن تفكر في ابتلاع مراكز حضرية أخرى، ولو أن الخصومات الحدودية لم تكن نادرة.

وكان تناسقهم متمحورًا على التبعية السياسية نحو الملك الوريث الذي يعتبرونه سيدهم (ادون الفينيقية) أكثر من تمركزهم على الروابط من الطبيعة العرقية.

صحيح أن الآراميين، مثل الإسرائيلين، والموآبين، ...إلخ، اختصوا بجزء كبير من القيم التي كانت الإمارات الحضرية من العصر البُرنزي قد طوّرتها، لكنهم تبّنوا الملوكية الوراثية ورموزها، وتحضّروا وتعّقدت تركيبتهم السياسية وتصّلبت.

وعلى النقيض من الإمارات الحضرية، كانت الممالك الآرامية تمتد قدر استطاعتها، مع أنها كانت أحيانًا تكتفي بِهَيمنة محدودة قبل أن تضمّ إليها تمامًا الدول الصغيرة المحيطة بها، وكانت منها تضمّ "مدنًا ملكية" عديدة، إضافة إلى "مدنها المحصّنة" وبعض الضِيَع والقرى المتواضعة.

 وفي زمان الحرب، لم يكن فقدان مراكز من الدرجة الأولى يُعَدّ فاجعة للملك، كما يكون الاستيلاء على نواة إمارة حضرية.

النزعة إلى التوسّع

يمكننا الاستناد إلى "الإمبراطورية" التي ينسبها العهد القديم إلى "هدد – عزر" ملك صوبة (٢ صموئيل ١٠/٨)، ولا على مثل "بن هدد"  بحسب ما جاء في ( ١ ملوك ٢٠ )، الذي يُفترض انه كان قادرًا أن يقود اثنين وثلاثين ملكًا ضد السامرة، ثم أن يقيلهم ويستبدلهم بمجرد حكام. وبرغم ذلك، فإن استعراضنا التاريخي للعالم الآرامي أظهر تعقد ممالك العصر الحديدي الثاني وجهودَها لاستيعاب عناصر جديدة.

فرأينا مثلاً أن اتحاد "لاقو" يمتد نحو الشمال ويدمج معه مؤقتًا "دور  كتليمو"، وأن "بيت أديني" تختص بإمارة "مسواري" (تل بر سيب)، الحثية  الحديثة، وأن "بيت أغوشي" تدمج مع نفسها مملكة حلب القديمة وجزءًا من پاتينا.

ورأينا أن الآرامي زكور يضمّ تحت صولجانه "لعش" ومملكة حماة التي كانت سابقا حثية حديثة. وشاهدنا أن المملكة، التي تكونّت هكذا، كانت قد امتدت إمتدادًا أوسع، وسيطرت على الإمارات الساحلية

التحالفات

ما وراء هذه التوسعات عن طريق ائتلاف واتحاد تحت صولجان واحد أو إلحاق، كانت الممالك الآرامية في العصر الحديدي مستعدة لتشكيل تحالفات مهمة غالبًا مع أطراف من الصعيد نفسه. ولا ندري حقًا هل أن "آرام الأعلى" و"آرام الأسفل" المذكورَين في نصب "سفيرة" الأول، لم يكونا يمثلان سوى منطقة نفوذ "أرپاد"، أو أن هذه كانت تضمّ سوريا كلها. ولكننا لا نشك في النزعة الدائمة لدى الدول السورية إلى الإتحاد، بعضها حول "أرپاد"، وأخرى حول دمشق.

وعلى سلم أصغر، نتذكر تضامن "بيت زماني" مع بلدان أخرى من "نائيري"، وتضامن "لافو" و"هندانو" مع "سوحو".

دول إقلیمیة أو دول قومیة؟

لقد احتفظ الآراميون، من أصولهم القبلية وحتى النهاية، بشيء من الشعور الخاص بالدول  القوميات.

يجب أن نعترف أن الدول السورية المعروفة  سمأل، أرپاد، حماة، دمشق  كانت، حتى القرن الثامن في الأقل، تقوم على أسس إقليمية أكثر منها عرقية.

وكانت تتقاسم صفات عديدة للإمارات الحضرية ولدول أخرى إقليمية من العصر البرنزي.

وما عدا حالات بيث أديني وحماة، كانت تتمحور حول العواصم بنوع واضح. وما عدا حالة أرپاد (بيث أغوشي) أقل استخدامًا في الظاهر من أسماء "× كانت أسماؤها من النماذج "بيث   مثل سمأل أو آرام "شا إيميريشو" ولاسّيما لأن في أغلب سكانها كانت عناصر قوية من الأصول الآرامية، ولم يتسنَّ لها أن تهضمها دومًا.

وكانت حماة، مثل سمأل، دولة حثية  حديثة، وتمكنت من أن تضم إليها إمارات ساحلية كان تجانسُها فينيقيًا أكثر منه آراميًا. فكانت "بيث أغوشي" قد ابتلعت جزءًا من پاتينا الحثية  الحديثة، وكذلك مملكة حلب القديمة.

ونستطيع القول إن الشعور العرقي لم يكن له بُعد حاسم في السياسة الخارجية للممالك الآرامية.

وهذه السياسة كانت تمليها غايات نفعية، ولم يكن الملوك ليستنكفوا من التحالف مع جيرانهم الحثيين  الحديثين، أو حتى من المراهنة على الخارطة الآشورية، كما جرى أحيانًا لسمأل وحماة. هل يجب الذهاب إلى أبعد والافتراض إن العامل العرقي لم يكن له موضع في وجدانهم؟

من المهم أن نشاهد أن الآراميين لم يحفظوا لنا أي تقليد ملحمي عن أصولهم، سواء كانت آرامية شاملة أو قبلية.

وانفتاح الآراميين المثير لكل أنواع التقابسات الثقافية من الشعوب الأخرى لا بدّ انه أّثر في بعض العوامل الأساسية من وعيهم القومي.

 ففي المضمار الديني مثلاً، لم يكن الآراميون يختلفون بعمق عن الساميين الآخرين في الغرب، وفي داخل العالم الآرامي، كانت الفرق المتنوعة تتميز الواحدة عن الأخرى بخصوصيات دينية وباللهجة.

ففي سوريا الغربية، تتأكد أولوية إله العاصفة من سمأل حتى دمشق.

 إلا أن الآراميين في حرّان كانوا يولون الإله القمر أهمية أكبر. وعلى طول الفرات الأوسط، ربما أخذ "أفلاداد" الأولوية على حساب أبيه، حتى قبل نهاية العصر الحديدي.

آثار الوعي العرقي

نرى أن الممالك الآرامية لم تكن دولاً - قوميات شأن بيت إسرائيل وبيت داود أو أبناء عمّون.

ولكن سيكون من الخطأ أن ننكر كل أهمية للعامل العرقي في منظورهم.

أجل، علينا إلا نغضّ الطرف عن تأصّل الآراميين في المجتمعات المجزّأة.

فأصلهم الفعلي لا يظهر من تركيب الألفاظ من "بيت - "× فحسب. فهناك علامات أخرى كثيرة، مثل ارتباطاتهم الجغرافية واللغوية بالقبائل العمورية، وتوسّعهم على حساب انحطاط الممالك في العصر البرنزي الحديث، وزُّي محاربيهم القديم كما يبدو في الصور التي تعود إلى مطلع القرن التاسع قبل الميلاد، وتبعية بُناهم السياسية، وثقافتهم المادية تجاه بُنى الحضارات الأقدم منها عهدًا، والاستمرارية في العيش حياة الرعاة عند العديد من قبائل الفرات الأوسط والبلاد البابلية، والدور الذي قامت به فرق أخرى تجاه المجتمعات الحضرية، مثل مجتمع "جيدارا" في نائيري، الذي كان الآراميون يحمونه من دون التمّثل به.

لقد ظل دومًا شيء من هذا التراث. والافتخار بالكيان الآرامي يظهر في النصوص، ليس عند الفرق "المستوحشة" فحسب، مثل العصابة التي انقضّت على "لاقو" في نحو سنة ٧٧٠ ٢ ، بل كذلك عند سلاطين أهم الممالك، الذين كانوا يأخذون لقب "ملك آرام"، أو الذين كانوا يهتمون بمفهوم "آرام بكامله".

ويجب ألاترى ثمة مجرد تعابير جغرافية. إن هذا التعّلق بإسم "آرام" يجد أجمل شرح له في بقاء بعض شعور عرقي ٣. 

(يتبع الثاني عشر)


١ إن لقب "نزيكو" كان يُعطي أحيانًا لشيوخ العرب. ولكننا نجده في الأغلب يُعطى في كتابات السرجونيين. إلا للرؤساء الآراميين في البلاد البابلية الجنوبية.

٢ إن المنتصر عليهم، نينورتا - كودو رّي - أو صور من سوحو، ينسب إليهم هذا الخطاب: "لا أحد من حكام سوحو، أجداده، تجاسر قط أن يجابه ألفًا من الآراميين. والآن، سيكون لهذا شأن مع ألفي آرامي!".

٣ بلغة هذه النصوص، يمكن مقابلة عبارة "ملوك العرب" الواردة في النصوص المسمارية، ويُعطى هذا اللقب بنوع خاص لملوك قيدار. ويمكننا هنا التفكير أيضًا في شخص آخر هو "أمرؤ القيس" الذي سُميّ "ملك جميع العرب" في العهد الروماني.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها