عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970


الفصل الثالث الفرات الأوسط

الجزء الرابع

الفرات الأوسط

كتبتُ عن آراميي نائيري، وتطرقتُ إلى منطقة غوزان (بيث بخياني)، ووصلتُ إلى حران التي كانت مركزًا مهمًا لعبادة الإله القمر، وأشرتُ إلى دورها الإقتصادي الكبير.

 والآن أحاول تسليط الأضواء على منطقة الفرات الأوسط والآراميين الذين كانوا يحتّلون مختلف الأماكن من هذه المنطقة الواسعة.

الظروف الجغرافية

إن منطقة الفرات الأوسط مختلفة جدًا عن المناطق المروية من الخابور الأعلى والبليخ الأعلى. فالمناخ الملائم للزراعة بدون ري لا يتجاوز، في جنوب جبل سنجار، المثلث الواقع بين الخابور وجبل  عبدالعزيز.

 أما الخابور الأسفل الذي كان مصيره مرتبطًا بمصير الفرات، فكان قناة تمتّد على سواحله من العصر الآشوري الوسيط، وكانت تنحدر أولاً إلى "دور كتليّمو"، وستُمُّد نحو النهر الكبير خلال القرن الثامن. أما الفرات، فإن مجراه محصور عادة بشواطئ مرتفعة، لذا فإنه عديم الفائدة لري الأراضي، ما عدا الأمكنة التي فيها يّتسع الوادي ليدع المجال لظهور جزر أو أراضٍ منخفضة. هناك فقط تتراكم المساكن والأراضي المزروعة.

 أما السهب العالي الذي يجتازه هذا الوادي، فلا ينفع سوى للمراعي، ولا يتسنى للناس والحيوانات أن يعيشوا فيه إلا بحفر الآبار العميقة التي كانت ضرورية لاقتصاد منطقة "سوحو" ولاقتصاد الآشوريين قليلاً إلى الشمال.

 فإنهم بعد أن استعادوا السيطرة على هذه المنطقة، حاولوا أن يحافظوا على طريق المواصلات المباشرة بين آشور ودور كتليمّو التي كانت تمرّ ب "أم عقريب".

 تقليد بابلي، تسرُّب آرامي

 في الجنوب الشرقي، كانت سوحو وبابل متجاورتين، وكانت حدودهما تتراوح بين "ايدو" (اليوم هيت) و"ربيقو" (اليوم رمادي).

وفي القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، كان أمراء يحتّلون الفرات الأوسط ويحكمون تارة في "شوبات – انليل" (تل ليلان) في مثلث الخابور، وطورًا في ماري (تل حريري) على الفرات على الحدود العراقية السورية الحالية.

وبعد أن أفلح حمورابي في تدمير "ماري"، واصلت مملكة "خانا" المرتكزة على "ترقا" (تل أشارا)، طوال أكثر من قرن، سيطرتها على المركز الشرقي من مملكة ماري السابقة.

 إلا أن الموقع الحصين "هريدو" ) خربة الدنيا، على بعد نحو ٦٠ كم عن الحدود السورية الحالية) كان يدافع عن حقوق بابل على سوحو. وبالفعل لقد ظل التأثير البابلي مهمًا جدًا في هذا القطاع الجنوب الشرقي من الفرات الأوسط في العهود الكاشية وما بعدها، بالرغم من تد ّ خلات البلاد الآشورية المتتالية ومن غزوات القبائل الثائرة.

وفي الربع الثاني من القرن الثامن، كان الأمراء المحليون ما يزالون يكتبون باللهجة البابلية، وكانوا يّدعون بأنهم من سلالة حمورابي عن طريق أمير كاشي.

 إن السكان الحضريين في الوادي، الذين كانوا يراعون هذا التراث البابلي، لم يكونوا وحدهم في هذه المنطقة.

إنها كانت محاطة بالآراميين الذين يبدون قبل كل شيء وكأنهم احتلوا مراعي السهب. وهناك نصوص من أمراء محليين تحتوي على آثار آرامية.

وأحد أهم المدافعين عن العاصمة السوحية ضد آشور ناصربال الثاني سنة ٨٧٨ ق.م. يحمل اسم "زبدان" الآرامي. وكان أحد المواقع التي خيّم فيها آشور ناصربال وقتًا إزاء "هريدو" المدينة الواقعة في أقصى الغرب من سوحو تسمى "بيث شابايا"، وهي كلمة عرقية آرامية الأصل.

 وهناك معاقل عديدة تعود إلى العصر الحديدي الثالث والتي تنتشر على الشاطئ الأيمن من الفرات، شرقي بلدة "عانه"، وقد قام الآثاريون بفحصها، وربما بنيت لمراقبة الفئات المتمردة على السلطة الشرعية.

 في نواحي الخابور، كانت الخارطة العرقية - السياسية قد تغّيرت جذريًا في نهاية العصر البرنزي الحديث.

وفي العصر الحديدي الأول، ما زال الناس يسمعون الكلام عن "ملوك ماري". وفي القرن الثامن، ما يزال أمراء سوحو يحملون لقب "حاكم سوحو وماري".

 لكن "ماري" في تلك الحقبة لم تعد سوى حلم، والنصب الذي أقامه في موقع "ترقا" القديم الملك توگولتي نينورتا الثاني، ومن البديهي بحسب الطابع المحلي، يكشف لنا بنوع مثير بعده عن الحضارة الآشورية. فترقا تُدعى من الآن "سيرقو"، وليست سوى حليف من حلفاء "لاقو".

ويتناسب هذا البلد مع الجزء الجنوبي الأقصى من الخابور الأسفل، ولكنه يمتّد بخاصة على وادي الفرات، من كلتا جهتي مصب الخابور.

وبحسب معارفنا الحالية، تكون الحدود الوحيدة الأكيدة لمنطقة "لاقو" حدودها الشمالية مع المستعمرة الآشورية المسماة "دور كتليمو"، وحدودها الشرقية كانت دويلة "هيندانو" تفصلها عن سوحو.

ولا نعرف بالضبط أين كانت مدينة "هيندانو"، ولكنها كانت غير بعيدة عن "أبو كمال" وعن الحدود العراقية السورية الحالية.

وفي العصر الحديدي، كان هذا الموضع قد أصبح مركزًا تجاريًا مهمًا.

والكيان الأصغر الذي كان يش ّ كل نواة "لاقو"، وهو "بيث حالوبي" كان يحمل اسمًا آراميًا، والرؤساء اللاقيون المعروفة أسماؤهم كانوا آراميين.

وكذا الشأن مع رئيس "هيندانو" الذي التقاه آشور ناصربال الثاني.

 إن هذه الدويلات الآرامية، وهي من التقليد البابلي، لن تقبل تجّدد الإستعمار الآشوري بخضوع شأن المستعمرات القديمة المنتشرة في المناطق الأعلى على الخابور، وشأن الدويلات الكائنة عند نهر البليخ.

 من الغزو الآشوري إلى شبه حكم ذاتي

 في سنة ٨٩٣ و ٨٨٥ ، وّفرت هيندانو ولاقو، عن طيبة خاطر، الهدايا النفيسة (نامورتو) التي جاء أدد نيراري الثاني وتوگولتي نينورتا الثاني يطلبانها منهم.

 وأقبل الأول من الشمال، وأنهى زيارته في "سيرقو" التابعة ل "لاقو"، وقد بادرت هيندانو إلى تقديم هباتها له. أما الثاني، فقد تقّدم من جهة الجنوب، من خلال سوحو، وزار هيندانو ولاقو في طريقه إلى الخابور الأعلى.

وبين سنة ٨٩٣ و ٨٨٥ ، كانت بعض مدن الخابور، حيث وجد أدد نيراري الثاني راحته، قد اقتربت ظاهريًا من التحالف اللاقي.

 وربما تركتهم السلطة الآشورية وشأنهم بعد عبور أدد نيراري. مهما يكن من أمر، ففي سنة ٨٨٥ ، كان كل واحد مستعدًا لإظهار السخاء الذي كان آشور ناصربال الثاني ينتظره.

 إلا أن قساوة مزاجه ومكائد القوى الغريبة كانت ستغّير كل شيء.

 في سنة ٨٨٣ ق.م.، قام متمردون باغتيال "هماتايا"، حاكم سورو، وهي أهم مركز لبيث حالوبي، ووضعوا على العرش شخصًا يسمى "أحي يبابا" الذي أتوا به من "بيث اديني".

ويبدو أن الحاكم المغتال لم يكن عميلاً لآشور. ففي سنة ٨٨٥، كان تيگولتي نينورتا الثاني قد وجدَه قائمًا بأعماله.

ومع ذلك فإن آشور ناصربال اعتبر هذا العمل بمثابة تمرّد.

 فانحدر نحو سورو، دون أن يلاقي مقاومة، ودمّرّ المدينة، ووضع على رأسها حاكمًا جديدًا هو "أزي – ايلو"، وقد انتهز هذه الفرصة ليزيد الجزية على أمراء "لاقو".

 ولم تكن هيندانو تنتظر سوى هجومه لكي تدفع له الضريبة بدورها. وفي السنة التالية، رأى حاكم سوتو، للمرة الأولى، رأى من الأفضل أن يؤدي الجزية هو أيضًا.

 إلا أن مساندة بابل كانت ستشجعه قريبًا على إلغاء هذه التبعية.

وفي سنة ٨٧٨ ق.م.، دنا ملك آشور من جديد من الفرات بإتجاه الشمال والجنوب.

 وسار كل شيء بدون حادث في الفرات الأعلى وفي لاقو وهيندانو. لكن المراكز السوحية لهاريدو وعانه أغلقت الأبواب بوجهه، وانفجر الخلاف بعنف في الشرق، في "سورو"، التي اّتخذها الزعيم مقرًا له.

وهذا الأمير، واسمه بابلي "كودوروّ"، ش ّ كل جبهةً بمساعدة أخيه "زبدان" وجيوش كاشية وفرقة بابلية يقودها "بارو".

 وإذا فقد الأمير مدينته الحصينة، فإن البلاد لم تخضع تمامًا للسلطة الغازية.

 وبعد هذا الحدث بوقت قصير، ثارت المنطقة كلها ضد آشور ناصربال. وروح الإنتفاضة لم يكن سوى "أزي – ايلو" الذي كان الملك قد أقامه على لاقو سنة ٨٨٣ .

ودخلت القوات الغازية حتى سوحو، ولكنها لم تتوقف عندها، بل اّتجهت نحو الغرب ووجّهت قوتها على "أزي – ايلو". فهرب الحاكم المتمرد إلى جبل بشري من خلال بيث أديني التي يبدو انها كانت متواطئة مع المتمردين. وفي هيندانو ولاقو، تّم سحق الحزب الوطني واستُعيدت السلطة الآشورية. ويظهر أن سوحو نفسها سقطت تحت سلطة آشور.

وهناك أمراء مستقّلون تشّبثوا بالسلطة في جزء من البلاد. إلا أن المناطق الأخرى لم تكن تخضع لهم.

 وفي وقت متأخر من القرن التاسع، استدعى مواطنون غير راضين الحاكمَ الآشوري "نركال - ايرش" الذي أفلح في الاستيلاء تمامًا على "عانه" التي كانت أحد المراكز الرئيسة.

 في الشمال، سعى الآشوريون في التكثير من القرى في السّهب الذي يفصل الخابور عن دجلة، ولاسّيما على طول الطريق التي كانت سابقاً توصل بين آشور ودور كتليمو.

وهنا تتفق المعطيات الآثارية مع لائحة التأسيسات التي قام بها "نرگال ايرش"، والتي نجدها على لوح "الرماح" لأدد نيراري الثالث.

 وحينما توفرت المعلومات عن ظروف سوحو، في نحو سنة ٧٧٠ ق.م.، نلاحظ أن هذه الدولة يحكمها "حاكم سوحو وماري" الذي يكاد أن يطالب باللقب الملكي، وهو ينعم بسلطة تامة حتى على "عانه"، ويبدو وكأنه يمارس حماية مبهمة على ممتلكات ملك آشور المجاورة.

ويظهر أن هذا الزعيم كان على علاقة جيدة مع الإمبراطورية، لأن لقبه "الحاكم" يشير إلى السيادة الآشورية التي إليها يعود، وحكام لاقو ورصابو يبحثون عن التحالف معه أمام خطر مشترك.

 ولا يسعنا القول كيف تّم هذا التوازن الجديد، ولكنه من المؤكد يأتي نتيجة ضعف الإمبراطورية الآشورية بعد عهد أدد نيراري الثالث، ولا بد انه تلاشى أمام عودة القوة إلى الإمبراطورية في عهد تغلاثفلاصر الثالث.

 تهديد القبائل المتمرّدة

 إذا كان ضعف السيطرة الآشورية يتيح حكمًا ذاتيًا لحكام سوحو، فإنه كان يعرّضهم أيضًا لمشكلة خطيرة تعاني منها كل النظم المضطربة :

 تكاثر الفئات الخارجة على القانون. أجل، لقد عانى هؤلاء الأمراء كثيرًا من العصابات (كولود) الآرامية، التي كانت تجد عناصرها في الجماعات القبلية غير المتحضّرة والغريبة عن البُنى الإدارية الإمبراطورية.

وقد رأينا أن العنصر الآرامي كان السائد في لاقو وهيندانو، وكان يقوم بدور كبير حتى في سوحو.

 إلا أن وثائق القرن الثامن الصادرة عن هذه المنطقة تحتفظ باسم الآراميين لفرق مزعجة كانت تنجذب وراء الثروات التي يكدّسها التجار والمزارعون، دون أن يعيروا انتباهّا لطريقة حياتهم.

وكانت هذه العصابات المتمردة من سكان السّهب وليس من سكان المناطق المزروعة، وأخلاقهم قد تؤيّد الوصف المهين الذي وصفهم به سرجون الثاني.

 ان الكتابة الكبيرة لشمش  ريشا  أوصور تتكلم عن الغارات الآرامية التي تنّفذها بخاصة قبيلة "تُعمانو".

 إلا ان نصوص ابنه نينورتا  كودوري  أوصور، الذي بدأ مُلكه في نحو سنة ٧٦٠ ، تحتوي على مثلين محفوظين بنوع أفضل. ففي إحدى الحالات يتعلق الأمر بهجوم على مركز متقدّم، وقد أنقذه ضابط من سلاح الفرسان.

 أما الحدث الثاني والأهّم، فقد جرى في مطلع عهد هذا الملك، وهو يخص عصابة من ألَفي رجل صممّوا على نهب "لاقو".

 وكان هؤلاء اللصوص يأملون بأن تزداد قواتهم خلال تقّدمهم في السّهب، وبأنهم سيّلقون الهلع في قلوب حكام المناطق الحضرية.

 إلا أن حاكم سوحو وماري يفتخر بأنه لاشى هذا الغزو، بمساعدة الحكام المجاورين الذين ترددوا في البدء أمام هذه القوة الزاحفة.

 ويصف نينورتا - كودورّي  أوصور خصومَه مثل عصابة من رماة السهام. وأبواب بلاوات وأنصاب تل حلف تساعدنا لكي نتصوّر مظهرهم.

 إن هؤلاء المحاربين كانوا يأتون من فروع عديدة من قبيلة "حاتّلو" الكبيرة. ولا يسهل تمييز قائدهم الأعلى، الذي يقّدمونه مثل "ناكيرو" السروجيين، من مدينة سروج الواقعة على بعد ٤٠ كم في الشمال الشرقي من كركميش، بالقرب من بيث أديني.

ونائب القائد كان شخصًا يُدعى "يائي" ابن بلعام، وكان من حماه، ومغامرته مع السوحيين تذ ّ كرنا بالإجراء المعاكس الذي قام به "زكّور" الذي احتلَّ حماه انطلاقًا من سوحو، وذلك قبل ربع قرن من الغزو الكبير الذي نحن الآن في صدده.

 إن مثل هذه الأحداث ممكنة في القسم الأول من القرن الثامن ق.م. أما خارج البلاد البابلية، فإن عصر القبائل الآرامية غير المستقرة بلغ نهايته.

 وقريبًا ستكون الحركات الكبيرة هي تحرّكات الجيوش النظامية وطوابير المسبيين.

 لقد قرب الزمان الذي فيه كانت الإجراءات القوية التي اّتخذها تغلاثفلاصر الثالث منذ مجيئه إلى الحكم ستُحكم السيطرة الآشورية على الفرات الأوسط مثلما على الجزيرة، إضافةً إلى المقاطعات التي احتلوها حديثًا في ما وراء الفرات.

(يتبع الجزء الخامس)

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها