عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970


الفصل الثالث الفرات الأوسط

الجزء الخامس

الإنتشار الآرامي في غربي سوريا

نظرة أولى

في الفرع الغربي من الهلال الخصيب، كانت الحالة مختلفة عنها في الشرق. فهنا، نتيجة انحلال الإمبراطوريتين الحّثية والمصرية خلال النصف الأول من القرن الثاني عشر ق.م.، لم تجد الشعوب الآرامية نفسَها في منافسة مع القوى الكبرى مثل الإمبراطوريتين الآشورية والبابلية.

 كانت الإمبراطورية الحّثية قد أخلت الموضع لدويلات أضعف، أو للممالك التي سميت "الحّثية – الحديثة" التي ترقى إلى العصر الحديدي الأول.

ومعظم هذه الممالك كان يشغل القسم الجنوب الشرقي من بلاد الأناضول والشمال الغربي من بلاد سوريا، حيث كانوا يش ّ كلون قوة ذات أهمية.

أما في الجنوب، فكانت الممتلكات المصرية القديمة منتشرة. وكانت سواحل البحر المتوسط موطنًا للمدن الفينيقية.

 وفي جنوبي خليج حيفا، كانت "شعوب البحر" قد أسست إمارات عديدة. وربما كانوا يحتّلون موقع "رأس ابن هاني" الذي كان سابقًا موقعًا أوغاريتيًا.

وفي موضع أبعد في الجنوب، بين نهر الأردن والسهل الساحلي، كانت القبائل الإسرائيلية، المتمّيزة عن الآراميين بعرقها ولغتها، تسير نحو وحدة سياسية لن تبلغها إلا في مطلع القرن العاشر ق.م.

وهناك أمم أخرى متجاورة كانت مزدهرة شرقي نهر الأردن، وأشهرها العمونيون والموابيون والأدوميون الذين كانوا يسكنون على هامش البادية السورية، في منطقة يبوك (وادي زرقاء) وإلى الجنوب.

لقد أفلحت شعوب آرامية في السكنى في هذه المناطق، ما عدا المناطق الساحلية. وفي تواريخ وظروف لسنا مطّلعين عليها، تمكنت هذه الشعوب من ابتلاع كيانات أخرى صغيرة، واستولت على الحكم أحيانًا في البلدان الحّثية - الحديثة. أما علاقاتها مع الشعب اليهودي في فلسطين، فهي معروفة من النقوش ومن العهد القديم، لاسّيما من أسفار صموئيل والملوك.

وفي سبيل معرفة طبيعة هذه الشعوب الآرامية ومصيرها، علينا أن نلقي نظرة على المناطق الشمالية والجنوبية من سوريا في الزمان الذي استوطنها الآراميون، والدويلات الآرامية التي استقرّت فيها وعلاقاتها مع جيرانها من الدول ومع القوى الأخرى.

من أمانوس إلى منابع نهر العاصي

الثقافات الكبیرة

كان للشعب الساكن في سوريا الشمالية الغربية والشمالية الشرقية عرق وثقافة معّقدان كثيراً.

فكان هذا الشعب ذا طابع سامي منذ زمان طويل. ولكنه اّتسم أيضاً بطابع حوريّ في القرون الأخيرة من العصر البرنزي الوسيط. ولم تتأثر هذه الحالة تأثيراً عميقاً من جرّاء الغزوات المصرية ثم الحّثية في العصر البرنزي الحديث.

لا شك أن لغات سامية مختلفة أفلحت في الإبقاء على كيانها جنباً إلى جنب مع اللغة الحورية.

وكان لهذه اللغة مكانها الخاص في أوغاريت مثلاً، لكن اللغة الأوغاريتية ظلت هي السائدة، وهي ممثَّلة جيداً على الساحل السوري حتى مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد.

إن تشكيل الممالك الحّثية - الحديثة لم يغّير تغييرًا جذريًا التركيب العرقي في شمال سوريا.

ونعترف بأن الغموض يكتنف أصل هذه الدويلات.

ومعظم الكتابات والآثار عنها لا ترقى إلى ما قبل الألف الأول قبل الميلاد. لكن مملكتي گرگميش وميليد (متمركزة حول ارسلان تبة في تركيا) تُذكران في نحو سنة ١١٠٠ في كتابات تغلاثفلاصر الأول وغيرها. والحقبة الأولى من معبد "عين دارا" في مملكة "باتينا" قد ترقى إلى القرن الثاني عشر ق.م.

وهناك نصوص تكشف لنا عن أن ملوك گرگميش، في العصر الحديدي الأول، كانوا يحملون لقب "الملك الكبير"، وكانوا يمارسون باسمهم الخاص الوصاية على شمالي سوريا، هذه الوصاية التي كان في السابق يخوّلها "حّتوشا" لأجدادهم. وتُظهر الاكتشافات الآثارية الاستمرارية الأساسية، لدى هذه الشعوب، للثقافة المادية والاقتصاد في هذه المنطقة كلها

كان للحدث الحّثي - الحديث نتائج مستديمة وذات أهمية كبيرة لتفهّم الدول الآرامية. فإذا توصل الآراميون إلى الاستيلاء على السلطة في بعض المواضع من المجموعة المكّثفة التي كانت البلدان الحّثية - الحديثة الشمالية تش ّ كلها، فإن معظم هذه الممالك احتفظت بهويتها.

وحتى في المناطق التي كان الآراميون فيها يش ّ كلون الأغلبية، فإنهم تأثروا بعمق بالثقافة المحلية لهذه البلدان.

 وكان للثقافة الفينيقية أيضًا تأثير كبير في المحيط. وقد تنافست اللغة الفينيقية زمانًا طويلاً مع اللغة الآرامية على حق اللغة الدولية في شمال سوريا وفي البلدان المجاورة. فمنذ القرن التاسع حتى نهاية القرن السابع ق.م. دُوِّنت كتابات الأنصاب باللغة الفينيقية.

وأقدم مثل لدينا حتى الآن يأتينا من "زنجرلي" على الجهة الشرقية من نهر أمانوس، وهو نص كُتب بعد سنة ٨٣٠ ق.م. بمدة وجيزة في مملكة صارت في أيدي الآراميين، وبلغة ممتزجة باللهجة الآرامية المحلية.

وهناك أربع كتابات أخرى تعود إلى العقود الأخيرة من القرن الثامن: الواحدة وجدت في "حسن بيلي"، على بعد ١٣ كم غربي زنجرلي على الجهة الأخرى من أمانوس.

 واثنتان هما من "قره تبة" في الشمال الشرقي من قيليقية. أما الرابعة فوُجدت بالقرب من "ايفريس"، وهي بلغتين ومخصصة لذكرى الملك "وَريالاوا" الطياني.

وفي نهاية القرن السابع، وجدوا أيضًا كتابة فينيقية بالقرب من "اميدانسيكال" في قيليقية الغربية (هيلاكو).

 في اتجاه منطقة قيليقية امتدّ إشعاع الفينيقيين إلى أبعد من الحضور الآرامي.

 إلا أن أبجديتهم وبضائعهم لم تمس المناطق الشمالية سوى من الخارج.

 في حين انه حيثما وَجَد الآراميون لهم موطئ قدم، أصبحوا عاجلاً أو آجلاً شعبَ البلاد.

 الخارطة السیاسیة

 إن تسرّب الآراميين الكبير في سوريا الغربية جرى في منطقة يحدّها من الشمال نهر عفرين وساجور، والتي ستحكمها مملكتا أرباد وحماه - لُعُش، في مطلع القرن الثامن عشر ق.م.

 في العصر البرنزي الحديث، كانت المنطقة الممتدّة من عفرين حتى منابع نهر العاصي (أورونت) تسكنها كيانات سياسية تتنازع السيادة عليها ميتاني ومصر وحّتي مدة طويلة. إلا أنها كانت دائمًا تقريبًا تحت السيطرة الحّثية طوال الثلثين الأخيرين من القرن الرابع عشر وحتى انهيار الإمبراطوريات في مطلع القرن الثاني عشر ق.م.

 وخلال التغييرات المتلاحقة، ظلت حلب دائماً على الخارطة.

 وهناك مملكة "أمورّو" تُذ َ كر بصورة مبهمة في نحو سنة الألف، بالرغم من التأثير القوي الذي تمارسه شعوب البحر.

وظهرت "نوح ّ شي" من جديد في القرن التاسع تحت اسم متغيّر (لوهوتي بالأكدية، لعش بالآرامية).

 أما "ايمار" ومدن العاصي، فقد توارت من الساحة السياسية في نحو نهاية العصر البرنزي الحديث ومطلع العصر الحديدي، وانتقلت السلطة بعامة نحو مراكز جديدة كانت في الغالب مستقرة على مواقع مسكونة منذ زمان طويل.

 ولكنها في البلاد الآرامية، كما في البلاد الحّثية  الحديثة، كانت عادةً أصغر من العواصم الكبيرة من العصر البرنزي.

 سوريا الجنوبية

التغییرات الجغرافیة (جغرافیة سیاسیة) في العصر الحدیدي الأول

في جنوب خط الحدود، الذي حدّدنا موقعَه عند منابع العاصي، كان مسرح الإنتشار الآرامي مختلفاً جداً. في داخل الأراضي، كان الطابع الحوري على الطبقة القائدة لا يختلف كثيراً عن الطابع الذي يسِم بقية سوريا.

 لكن ملوك "حطّي" والسلالات التي جاءت بعدهم لم يكن لهم قط تأثير مستمر في المنطقة.

أما السيادة المصرية فقد استمرت حتى منتصف القرن الثاني عشر، واشتدت وطأتها بخاصة وأكثر فأكثر على بعض المواقع المهِمّة، لاسّيما في الجنوب الغربي.

 وفي هذه الحقبة، نشهد ظهور دويلات تنعم بالحكم الذاتي حينما تضاءَل تأثير الإمبراطورية.

 وكانت القرى تتكاثر في الأراضي المرتفعة على جهَتي نهر الأردن والبحر الميت.

 أما اللغات التي تتكلمها هذه الفئات فستكون العبرية واللهجات المتعلقة بها.

 وقريبًا، لاسّيما طوال الربع الثاني من القرن الثاني عشر، ستُسيطر "شعوب البحر على معظم المواقع الساحلية الكائنة جنوبي "سان جان داكر".

وإلى الشمال، كان التمركز الرئيسي للمدن الفينيقية يحتفظ بهويته العرقية والثقافية، ولكنه كان يسير نحو الإختفاء.

 الدول التي ابتلعها الآراميون

 إن سكنى الشعوب التي تتكلم اللغة الآرامية سيكون محدودًا، في خطوطه الرئيسة، في الشرق بالصحراء السورية، وفي الغرب بسلسلة لبنان الساحلية وبالمنشآت الإسرائيلية، وفي الجنوب بالشعوب العمونية الساكنة في يبوك الأعلى.

لم تكن هذه المساحة فارغة في الزمان الذي فيه حلَ فيها الآراميون، إلا أن الوثائق لا تُطلعنا على هوية سكان البقعة السابقين وعلى الزمان الذي فيه ذابوا في الآراميين.

 وهنا نستند في إعادة تكوين الأحداث إلى ما جاء في العهد القديم، ولاسّيما الروايات التي جاءت في سفر صموئيل (٢ صم ٨ و ١٠). وبين الأعداء الذين تحالفوا مع العمونيين ضد الملك داود، تذكر هذه النصوص آراميي بيث رحوب وصوبة، وكذلك ملك "معكة" ورجال طوب (٢ صم٦ /١٠).

 ولا نعرف شيئًا عن "طوب" ما عدا أن هذا الاسم هو من الصبغة السامية الغربية، وان هذه الأحداث تجري في منطقة شرقي الأردن (راجع سفر القضاة ٣/١١).

ويبدو أن كاتب صموئيل الثاني (٦ / ١٠) يمّيز معكة عن الآراميين. والمقاطع التي تجعل هذه البقعة من ضمن الممالك الآرامية قد تكون نتيجة تحالفها مع الآراميين (٢صم٨/ ١٠- ١٤).

 فيسوّغ لنا التفكير في أن معكة لم تكن مملكة آرامية، بل دولة قديمة تمكنت بعض الوقت من الإحتفاظ بهويتها المتميزة وسط التغييرات الطارئة في العصر الحديدي الأول.

ودعمًا لهذا الرأي، قال البعض أن معكة كانت موجودة في وقت سابق، وان مدينة "أبيل بيث معكة"، التي لا بد من أنها كانت جزءاً من معكة في أحد الأزمان، كانت تظهر في لائحة المدن التي استولى عليها "طوطمس" الثالث المصري. وإذا قبلنا بتشخيص هذه المدينة بموقع تل "أبيل القمح" غربي دان، تسّنى لنا التفكير في إمارة واقعة قديمًا جنوبي جبل حرمون وشرقي الجليل الأعلى. والتغييرات الكبيرة التي جرت في العصر الحديدي الأول تكون قد انتزعت من معكة جزءَها الغربي، وحكمت عليها بالعيش في ظل إسرائيل، ولاسّيما في ظل آرام، ريثما يتمّ صهرها في وقت لاحق.

 أصعب من ذلك هي قضية مملكة "جشور" التي لا تظهر في (تحالف٢ صم ١٠). هناك نصوص تحدّد موقعها بجوار معكة وتشكل معها الحدود الغربية لباشان (راجع يشوع ٥/١٢،١١/ ١٣و١٣). ونصوص أخرى تخص تاريخ خلفاء داود الملك(٢صم ٣/٣، ٣٧/١٣، ٢٣/١٤، ٣٢، ١٨/١٥ (تجعل "تلماي" ملك "جشور" جَدّاً لأبيشالوم من أُمه معكة. واحد هذه(٢ صم ٨/١٥) يضيف إلى كلمة "في جشور" العبارة  النصوص، وهو الشارحة "في آرام".

وإذا أولينا هذه النصوص قيمة تاريخية، تسّنى لنا القول إن جشور، المملكة الصغيرة القابعة جنوبي معكة، كانت قد أصبحت آرامية منذ عهد الملك داود.

 وربما أن هذا الواقع سهّلَ المصاهرة بين داود وتلماي. وهذا يشرح أيضًا عدم اشتراك جشور في الحروب الآرامية ضد الملك داود التي دارت بعد ذلك.

وسنستطيع الإفتراض، على ضوء (يشوع١٣/١٣) أن معكة أيضاً كانت قد أصبحت آرامية، وهذا من شأنه أن يشرح عدم طرد الجشوريين والمعكيين.

إلا أن هذه تبقى مجرد فرضية. أما ما جاء في (٢ صم ٨/١٥)، فقد يشير إلى أصل متأخر لقصة داود، إلى زمان فيه قد ذابت دولة جشور في دمشق.

ويسعنا، والحالة هذه، أن نولي عدم اشتراك جشور في تحالف هدد عزر كل ثقله، وذلك في استعادة اسمها في إحدى رسائل "العمارنة"، وإلى المظهر الحوري لاسم "تلماي" حمي داود الملك.

وهكذا نكون إزاء دولتين في الشمال الغربي من وراء الأردن، وقد استمرت هويتهما إلى ما بعد العصر البرنزي.

 إن هذا التأويل يتناسق مع المعطيات التي اكتشفتها التنقيبات الآثارية في منطقة شرقي بحيرة طبرية، في بلاد جشور.

 فقد تمّ التنقيب في هذه المنطقة للمرة الأولى سنة ١٩٦١، وللمرة الثانية سنة ١٩٨٧.

وأظهرت النتائج أن التحصينات والبنايات العامة والخزفيات من المستوى الرابع ليست آرامية ولا إسرائيلية.

 إلا أننا لا يمكننا الاعتماد دوماً على علم الآثار لتحديد زمان وصول الآراميين إلى دمشق، التي ستصبح قريبًا القوة الرئيسية للآراميين وأولى عواصمهم المهمة.

كذلك لا يمكننا أن نثق بالمصدر الذي يُعتبَر ظاهريًا أقدم مصدر يربط دمشق بالآراميين (٢ صم ٥/٨...).

فإن هذا النص يقطع  استمرارية موجز العمليات الحربية التي قام بها داود ضد صوبة.

ومن الأفضل القول انه ليس ثمة شهادة أكيدة عن عودة دمشق إلى العالم الآرامي قبل ثورة "رزون" في زمان سليمان (راجع ١ ملوك ٢٣/١١-٢٥).

فهنا كما  في جشور ومعكة، ربما دام نظام العصر البرنزي الحديث حتى سيطرة إسرائيل في مطلع القرن العاشر.

فلا أحد يعرف الدور الذي قام به الآراميون بجانب السكان الأصليين، ريثما يقوم واحد منهم بالاستيلاء على السلطة.

إن مجيء الآراميين أثر في سكان سوريا أكثر من تأثير الغزوات المصرية أو الحّثية وغيرهما.

ولم يُدخِل الآراميون إلى أي مكان أشكالاً راقية من ثقافة غنية ومعقدة.

 إلا أن لغتهم فرضت ذاتها شيئاً فشيئاً في مناطق شاسعة.

وقد كتب الأب هابيل الدومينِكي عنهم:

 "إن تأثيرهم العرقي لم يكن رهن المصادفة، بل انتصر على حضارات متقدمة عليهم تقدماً كبيراً، واستمر حتى حينما وجد الآراميون أنفسَهم خاضعين من جديد لسلطات.

غريبة" ١ ولا يسعنا تحديد الوسائل والسرعة التي فيها تّم هذا التغيير.

ولكننا نستطيع أن نتصورها على مثال تعريب الشرق الأدنى، وقد تكون إعادة عامة لما جرى في السابق.

وكما أن التعريب كان أسرع في سوريا وفلسطين منهما في مصر، كذلك التأثير الآرامي سيكون قد جرى في سوريا الداخلية بصورة أسرع حيثما كان الناس يتكلمون لغات سامية الشمالية الغربية منه بين الشعوب الحورية أو الحّثية - الحديثة.

(يتبع الجزء السادس)

١ الأب هابیل، جغرافیة فلسطین، المجلد ١، باریس ١٩٣٣ ،ص ٢٤٦

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها 

الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 
المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها