عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

الأب المؤرخ ألبير أبونا

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970

 

 


الفصل الثاني  الممالك الآرامیة

الجزء الثالث

الممالك الآرامية

ألقينا نظرةً سريعة على الآراميين، فتناولنا أصوَلهم وانتشارهم السريع في مختلف المناطق السورية، وفي أجزاء عديدة من بلاد الرافدين.

ثم تكلمنا عن وجودهم في المنطقة الشرقية، وفي منطقَتي الجزيرة والفرات الأوسط.

والآن نسّلط الأضواء على بعض الأماكن التي تمركز فيها الآراميون في القسم الشمالي من بين النهرين، حيث شكلوا دويلات أو إمارات تنعم ببعض الاستقلالية، وكثيرًا ما تسبب شيئًا من الإزعاج للبلدان الكبيرة المجاورة.

آراميو نائيري

إن "نائيري" منطقة تقع بين أورارتو في الشمال وبيث زماني في الجنوب، قرب آمد، أي دياربكر الحالية في تركيا الشرقية.

في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، انهارت مقاومة الحوريين في منطقة "خانيكالبات" أمام الملكين الآشوريين أدد نيراري الأول وشلمناصر الأول.

 وقد طال هذا الغزو الصاعق الشعوب والقرى والمدن العديدة التي كانوا يسكنونها. ويبدو أن استعمال اللغة الحورية أخذ يتراجع أيضًا، فاعتصمت هذه اللغة شيئًا فشيئًا بالجبال الشمالية حيث نشأت "أورارتو"، شرقي بحيرة "وان" وغربيها.

 أما الآشوريون فقد أقاموا في البلاد التي احتّلوها شبكةً من مستعمرات ومراكز إدارية صارت تستغلُّ ثروات بين النهرين العليا.

ولقد أُعيد النظر في هذا النظام بعد موت الملك الآشوري توكولتي نينورتا الأول سنة ١٢٠٧ ق.م.، ولاسيما بعد موت تغلاتفلاصر الأول سنة ١٠٧٦ ق.م. فظهرت حكومات محلية قائمة بذاتها، وكانت في الوقت نفسه قبائل جديدة تتسرب في هذه المناطق، وتنتشر لغاتها في المنطقة الحورية القديمة. فتواصلَ انتشار العناصر الآرامية مدة طويلة، من دون أن تلاقي معارضة آشورية قوية.

وحينما عاد الملك آشوردان الثاني ( ٩٣٤ -٩١٢ ق.م.) والذين تبعوه على آثار غزاة العصر البرنزي الحديث، ترتَّب عليهم غالبًا أن يستعيدوا المواقع التي كان الآراميون قد احتلوها.

وعادوا إلى منطقة "نائيري" قبل أن تستطيع الثقافة الآرامية أن تزدهر فيها وان تترك فيها آثارها العميقة. وهذا ما يثير مشكلة تشخيص الفرق العرقية المستقرة في مختلف المواضع التي تذكرها المسارات الآشورية.

لا يتسّنى لنا إعادة تكوين تاريخ الآراميين في "نائيري" في تسلسله الدقيق. فالمصادر الوحيدة في حوزتنا، وهي الحوليات العسكرية الآشورية، لا تقدم لنا سوى سلسلة من الأحداث الفورية التي سجَلها حملةُ ثقافة غريبة متعجرفة، وقد أُعيد إصلاحها أو ترميمها لغرض الدعاية.

إلا أنها مثَقلة بأسماء الأمكنة وبأسماء أعلام أخرى تعود إلى عدد كبير ومختلف من"البلدان" (ماتو) الكبيرة والصغيرة، ومن القبائل الر حل، ومن المدن المستقّلة، والاتحادات الفدرالية والممالك. وإذا أُجري فحص دقيق ومنهجي لهذه المنطقة، أتاح لنا اكتشاف أوجه عديدة من البنى الاجتماعية والاقتصادية والدينية فيها.

في هذا الخضم من المعلومات الجغرافية والأحداث السياسية، نلاحظ أمثلة من التكافُل، حيث تتكيف فئات آرامية مع الحياة الحضرية التقليدية داخل جماعات عرقية أخرى، مع افتخارها بالاحتفاظ بأبعادها. وجديرة بالاهتمام الخاص هي حالة مدينة "جيدارا" في جبل "كشياري" (طور عبدين في تركيا الحالية)، في مطلع القرن التاسع قبل الميلاد.

واسم "جيدارا" نفسه سامي غربي حيث كانت اللهجة تختلف ظاهريا عن الآرامية. إلا أن المصادر الآشورية تدعوها أيضا "راقاماتو" أو "راداماتو".

ويبدو أن هذه تسمية آرامية.

وحينما وقف الملك أدد نيراري الثاني أمام أبواب "جيدارا" سنة ٨٩٨ ق.م.، كان الذي يتزعم المقاومة هو التيماني "موقورو" الذي تبدو قبيلته آرامية.

وإذ يذكر ملك آشور القوى التي يعتمد عليها هذا الأمير بوقاحة، يسمي "الآراميين " بعد المدينة وجيوش "موقورو".

في مطلع الغزو الآشوري، كان التيمانيون بدون شك أقوى فئة آرامية في "نائيري".

فإنهم بقيادة شخص يسمى "مملي"، كانوا قد سيطروا على المنشآت الواقعة في أسفل جبل "كاشياري". وقد احتفظت هذه المنطقة بالطابع الآرامي زمانًا طويلاً، بعد اجتياز السلطة إلى أياد أخرى.

وهناك أسماء آرامية كثيرة، أمثال حزائيل وأدد أدري وغيرهما، وردت في المعاهدات الآشورية من عهد آشور بانيبال، وقد عثر عليها في المواضع المجاورة لنصيبين.

ويبدو أن حدود هؤلاء الأقوام بلغَ في الغرب إلى منطقة "حوزيرينا" (سلطان تپه الحالية)، شمالي حران.

 ولكننا إذا وضعنا الأمور في سياقها الحقيقي، لاحظنا أن المقطع الذي فيه يروي الملك أدد نيراري استيلاءه على هذه النقطة القصوى من منطقة النفوذ التيماني سنة ٨٩٩ ق.م. يولينا الانطباع بأنها لم تكن بعد قد أصبحت آرامية بعمق، وان الاحتلال الآشوري اعتُبِر بمثابة تحرير لها.

وعلى النقيض من دول آرامية كثيرة في ما وراء الفرات وفي منطقة الجزيرة، فإن الإمارات التيمانية لا توصف قط وكأنها ملك لأحد، ولا يبدو أنها في الواقع قد اّتحدت سياسياً.

فلا نعرف اسم أي زعيم عام على التيمانيين في الزمان الذي فيه تم الهجوم الآشوري الأول عليها.

 ولا شك أن "نور أدد"، أمير نصيبين، كان يحظى بسلطة كبيرة ونفوذ واسع، واضطر الملك الآشوري أدد نيراري الثاني إلى تنظيم ثلاث حملات لكي يحرز النصرعليه، وهو يتكلم عنه كملك.

ومع ذلك فان أخاه في العرق "موقورو جيدارا" (راقاماتو) لا يبدو انه قد تلقى منه توجيهات ولا أي مساعدة عسكرية.

إنما بإمكاناته وحدها جابه الآشوريين سنة ٨٩٩ ق.م ولكنه غُلب على أمره هو أيضاً، وظلت هذه المنطقة تحت السلطة الآشورية.

وفي سنة ٨٥٢ ق.م.، نلاحظ أن لائحة الأسماء تحمل اسماً لحاكم (شَكنو) نصيبين.

وهناك كيان آرامي رئيسي آخر لقيه ملوك آشور في منطقة تقع جنوبي نائيري" ويسمى "بيث زماني"، وهي منطقة واقعة قرب منابع دجلة، وكانت المدينة الرئيسية فيها هي "أميدو" (آمد: دياربكر الحالية).

وكانت هذه المملكة، على النقيض من الإمارات التيمانية، مملكة موحدة سبق اسمها ونواتُها الأولى العصر الذهبي للانتشار الآرامي.

وفي سنة ٨٨٩ ق.م.، خضع أمير "بيث زماني" للملك الآشوري توكولتي نينورتا الثاني، بعد أن أبدى بعض المقاومة، والتزم بالَقسم بألا يزود أعداء آشور بالخيل.

وقد ظلَّ أمينًا تجاه التزاماته في عهد الملك ناصربال الثاني. إلا أن هذا الولاء كلَّفَه حياَته، لأسباب لسنا مطلعين عليها. فاستاء الملك الآشوري من مقتله، ويبدو أنه انتقم له سنة ٨٧٩ ق.م.، ووضع أخاه على العرش خلفًا له.

ومن الغريب أننا نلاحظ أن الملك الآشوري آشور ناصربال عاد من جديد إلى "بيث زماني" سنة ٨٦٦ ق.م.، لكي يعاقب هذا الأمير الذي كان هو قد أقامه عقاباً صارما لا نعلم أسبابه.

لا غرو أن "بيث زماني" كانت تتدخل في شؤون المنطقة، وربما كانت تمارس نوعا من الهيمنة على منطقة "نائيري" الكبيرة كلها . ويبدو أن الضريبة التي كانت "بيث زماني" تدفعها عدت مع ضريبة "نائيري"، وان أُمراءها قد تقاسموا مرات عديدة مصير جارهم "لبتورو" بن "تبوسو"، سواء في دفع الضريبة أم في التعرض للعقاب.

وهناك إشارات أخرى تدلُّ على أن هذه الدولة كان يحسب لها ألفُ حساب. ولم يتولَّ الآشوريون إدارة مستعمراتهم في "تيدو" و"سينابو" منذ غزواتهم الأولى، بل تركوا السيطرة عليها لبيث زماني حتى انتفاضة سنة ٨٧٩ ق.م. وفي هذه الحملة، وفي سنة٨٦٦ ق.م. انسحب آشور ناصربال، في سورة غضبه المدمر، دون أن يفلح في السيطرة على المدينة الملكية.

والضريبة الباهظة التي فرضها على هذه البلاد الصغيرة سنة ٨٧٩ ق.م.، ثأرا لمقتل تابعه الأمين، استحقت ذكراً مفصلاً في الوثائق.

 ويعَتبر هذا امتيازا تقاسمته هذه المملكة الصغيرة مع الهدايا التي قدمتها مملكتا كركميش وباتينا.

من الخابور حتى منعطف الفرات

بقایا الإمبراطوریة الآشوریة من العصر البرنزي الحدیث

إن منطقة الخابور في زمان يقظة آشور معروفة نسبياً، ليس من النصوص القديمة فحسب، بل من الأبحاث الآثارية الكثيرة التي أُجريت لها أيضاً.

 ولا شك أن العنصر الآرامي كان منتشراً فيها بكثافة أكبر مما في "نائيري".

 إلا أن الاستعمار الآشوري الوسيط كان قد تجّذر فيها بقوة. وحتى بعد الانتشار الآرامي، كانت ما تزال، جنوبي مثلث الخابور، شعوب من الثقافة الآشورية البابلية، وسلالات تدعي انتماءها إلى آشور. ولكن كان على هؤلاء "الحكام" الآشوريين أن يتدبروا شؤونهم بقواتهم الخاصة، في ذلك الوسط المعقد حيث كان العنصر الآرامي سائدا في الجنوب وفي الغرب، مثلما كان في الشمال.

وإحدى هذه السلالات الآشورية كانت "آشور - كّتي ليشر"، "ملك ماري".

وقد اكتُشفت كتابة له حديثًا في "تل بديري". وكان هذا الملك يدفع الجزية لتغلاثفلاصر الأول في نحو سنة ١٠٩٠ ق.م. ولا يبدو أن له علاقة بمدينة "ماري" الشهيرة الواقعة على الفرات.

وكان حكمه يتمحور حول "طابيتو" (تل طابان) في الجزء الشمالي من الخابور الأسفل، بين جبل سنجار شرقًا، وجبل عبد العزيز غرباً.

وهو يذكر اثنين من أسلافه، ولا شيء يمنع من أن يكون له خلفاء.

وقد أطلعتنا نصوص أُكتُشفت في آشور وشريف خان وتل عجاجا الواقعة نحو ٢٥ كم في الجنوب الغربي من تل بديري فوق طابيتو، على وكلاء "ايشياكو" البلاد الآشورية، الذين كانوا يتقلدون السلطة في "شاديكانو" (تل عجاجا) طوال النصف الأول من القرن العاشر وخلال القرن التاسع ق.م.

وان الثيران المجّنحة "لاماسو" ونقوشًا أخرى من بلاط "موشيزيب نينورتا" (نحو سنة ٨٢٠ ق.م.) من شأنها أن تؤ كد أنها تعود إلى المملكة الآشورية، إذا كان التأكيد ضروريًا.

وفي جنوب "شاديكانو"، كان مركز آشوري آخر كشفت عن أهميته التنقيبات الآثارية والرسائل المتبادلة بين حكامه، وهو في "دور كاتليمو" (تل الشيخ حمد الآن).

وقد وردت هذه المستعمرة أحيانًا باسم "دور أدوكليمو". وفي سنة ٨٩٤ ق.م.، استُقبِل فيها الملك أدد نيراري الثاني استقبالاً وديا... ففي طريقه إلى "دور كاتليمو"، دخل أولاً إلى "شاديكانو" دون مشاكل، ثم إلى "قطنو" حيث وجدَ حاكمًا يحمل اسمًا آشورياً هو "أميل أدد"، فتركه في منصبه. وقليلاً إلى الجنوب، عند مصب الخابور في نهر الفرات، كانت المنطقة في أيدي أمراء آراميين لم يكن من السهل اليسير إخضاعهم للإمبراطورية الآشورية.

غوزان وأزالو (بيث بخياني)

كان الجزء الغربي من مثلث نهر الخابور الخصب نصيب المملكة الآرامية التي دعاها الآشوريون "بيث بخياني". وكانت هذه المملكة تتمركزعلى "غوزان" (تل حلف) والموقع القريب جدا من "سيكان" (تل فخيريه).

 في الشرق، يسعنا القول أن تأثير التيمانيين كان يجري في وادي "جقجق" القريب من نصيبين. ولكن نزولاً نحو الجنوب، كان هذا التأثير يتضاءل شيئًا فشيئًا أمام نفوذ المنشآت الآشورية في الخابور الأسفل.

وفي غربي "غوزان" و "سيكان" القريبة منها، نجد منطقة غير معروفة كثيراً، وكانت تفصل "بيث بخياني" عن العالم الآخر الواقع غربيها. وأقدم النصوص الآشورية الحديثة لا تحدد في هذه البقعة سوى مواضع قليلة، وتترك معظم الأماكن الأخرى في الظلمة. والغريب أنها تغفل عن ذكر حران، مع كون هذه المدينة مركزاً دينياً مهماً سيعلو شأنه أيضاً على الصعيد السياسي.

 أما الألواح التي عثر عليها في منطقة "سوحو" الواقعة على الفرات الأوسط، بالقرب من "ماري"، فإنها تُميط اللثام عن عالم آرامي ما يزال غير متحضر بكفاية، وكان يحيط في السهب بالمواقع المدنية المتحضرة في الخابور.

في سنة ٨٩٤ ق.م.، قدم أبي سلامو" ملك "بيث بخياني" خضوعه للملك الآشوري أدد نيراري الثاني.

 وهناك شخص آخر من السلالة نفسها لا يذكر اسمه، وهو يبدي الخضوع لآشور ناصربال الثاني سنة ٨٨٢ ق.م. وكذلك سيفعل شعب "بخياني" في نحو سنة ٨٧٠ ق.م.، حينما سيرفع الملك الآشوري الجزية عنه ويضم عناصر محلية إلى جيشه.

وهناك تمثال بالحجم الطبيعي، تعلوه كتابات بالأكدية والآرامية ويرقى في الظاهر إلى عهد آشور ناصربال الثاني وشلمناصر الثالث، اكتُشفَ في "تل فخيريه" سنة ١٩٧٩ م، وهو يطلعنا على أن ملك غوزان وسيكان وأزرن (زارانو في الأكدية) ١ كان يقوم في الوقت نفسه بدور حاكم آشوري (شاكين ماتي) منذ النصف الأول من القرن التاسع ق.م.

وهذا الدور المزدوج لا ينسب إلى المعطي فحسب، ويسمى "حدو تيعي"، بل كذلك إلى أبيه "شمش نوري" قبله.

ومن الأرجح أن "شمش نوري" هذا لم يكن إلا الاسم الآشوري المذكور سنة ٨٦٦ ق.م.، وما كان في وسعه أن يرتبط بالعائلة المالكة القديمة الممثَّلة ب "أبي سلامو".

إن ما وصلنا من الأحداث التاريخية عن مملكة "غوزان" يتحدد واقعيا ضمن هذه المعطيات التي ليست أكيدة جزئيا. ففي سنة ٨٠٨ ق.م.، نلاحظ أن "غوزان" صارت هدفًا لحملة اضطُر الملك الآشوري أدد نيراري الثالث إلى القيام بها، لكي يغزو البلاد من جديد ٢.

ومنذ سنة ٧٩٣ ق.م.، تُظهر لنا الوثائق "غوزان" خاضعة لحكام، دون أن تبدي مطالبة بالملوكية. وفي سنة ٧٥٨/ ٧٥٩ ق.م.، مزجت هذه المقاطعة في الانتفاضات التي هزت أركان  الإمبراطورية الآشورية، قبل أن يستولي تغلاثفلاصر الثالث على الحكم سنة٧٤٥ ق.م. وبعد مرور قرن على السيطرة الآشورية، يمكننا أن نشرح هذه التحركات بكونها خصومات ومنافسات سياسية بين تكتلات آشورية بالأحرى من كونها تطلعات إلى الاستقلال بدت من ترسبات شعوب آرامية هناك.

لعز كبارا

إن "كاپارا" هي المجهولة الكبيرة في تاريخ "غوزان"، ومبانيها ومنحوتاتها تبرر الأهمية التي كانت هذه البلاد تحظى بها. وبالرغم من قلة المهارة في إنجازها، لا يسعنا إلا أن نتعجب من الطراوة والقوة في حجارتها الـ ١٧٩ من البازلت والجيري، وقد أخذوها عن سلف حديث، وكانت تزين "معبد البلاط" عنده. إنها تمثل محاربين والوهات تثير الابتسامة بأشكالها الغريبة. ونلاحظ فيها زمرة من الحيوانات وهي ترقص وتعزف بمختلف الآلات الموسيقية.

ومن المؤسف أن "كاپارا" لا تُعرف إلا بكتاباتها الخاصة بها، وهي أيضا ناقصة. فلا يمكننا تحديد موقعها التاريخي.

 فذهب قوم إلى تحديد تاريخها بالقرن الثامن قبل الميلاد، وغيرهم بالقرن العاشر. وربما من الأفضل تقديره بالقرن التاسع قبل الميلاد، إذ كانت "غوزان" قد رضخت للهيمنة الآشورية التي لم تكن، والحق يقال، ثقيلة الوطأة عليهم.

 وهذا الحل من شأنه أن يشرح الطابع القديم الذي تتسم به كتابات "كاپارا"، مقارنة بالكتابات المسمارية التي وردت على تمثال "حدو يت عي"، وأن يشرح كيف أن "كاپارا" استطاعت أن تختص باللقب الملوكي، دون إثارة سخط الملك الآشوري.

لا يسعنا التأكيد أن "كاپارا" وأباه "حديانو" كانا ينتميان إلى سلالة "أبي سلامو" نفسها.

فان "كاپارا" لا يذكر في كتاباته "ابي سلامو" ولا "بخيانو". إنما يتقدم مثل ملك "با لي ي"، وقد يكون هذا اسما قديما في المنطقة. ٣

أزالو

إن حوليات الملك آشور ناصربال الثاني تشرك مع "بيث بخياني" في كيانات سياسية أخرى غامضة. فيبدو أن "أحيرام" "بن يحيرو" قدم جزيَته مع" أبناء بخيانو" في نحو سنة ٨٧٠ ق.م. وربما كانت ثمة إمارة صغيرة تُدعى "بيث يحيري" تقع بجوار "بيث بخياني"، ولكنها غير معروفة.

وقد رأينا أن أبواب آشور ناصربال في "بلاوات" كانت تمّثل محاربين من "بيث يحيري"، مع ذكر إحدى مدنهم. إلا أن الاسم قد أُمّحى!

إن منطقة "بيث بخياني" وغيرها من الأراضي الواقعة نحو الشمال الغربي كانت تسمى "بلاد أزاّلو".

ولم يتوغل آشور بانيبال الثاني، في بدء عهده، إلى أبعد مما فعَله أدد نيراري الثاني، ولم يكن لديه عن هذه المنطقة سوى معرفة إجمالية.

لذا فإن حولياته لسنة ٨٨٢ ق.م تدعو سليل بيث بخياني بـ "الأزاّلي"، وتصف جزيته مثل جزية "أزاّلو".

إن هذا الاسم كان يتعادل على أساس جغرافي مع اللفظ العرقي لـ "أبناء بخياني"، كما حينما يتكلم عن أمراء "زنجرلي" كانت اللفظة الجغرافية "سمأل" تعادل اللفظة العرقية "أبناء كپارا".

إن الحملات المتتالية التي قام بها الآشوريون جعلتهم يألفون المناطق الواقعة غربي الخابور.

 وكان راوية النزهة العسكرية الكبيرة التي قام بها آشور ناصربال شطر البحر المتوسط في نحو سنة ٨٧٠ ق.م. يعرف بلادا تُعى باسم "أزاّلو" متاخمة لحدود "بيث بخياني"، ولكنها تتميز عنها.

وكان هذا الراوية يعرف أيضا "تل أبني" الواقعة قليلاً نحو الغرب، وهي إمارة قريبة من "بيث أديني". وهناك أيضا دويلة آرامية تسمى "أشو" التي سيرد ذكرها مع " أزاّلو" سنة ٨٦٦ ق.م. وطوال السنوات الأولى لعهد شلمناصر الثالث، نرى أن "تل أبني" القريبة من "بيث أديني" ستؤدي الجزية بالتناسق مع دولة سروج الصغيرة الواقعة غربي نهر البليخ وإمارة "إمرينو". وبين أحداث سنة ٨٦٦ ق.م . التي يرويها مؤرخو الملك آشور ناصربال الثاني، نلاحظ أن الضريبة التي يؤديها الأزاّلي "يتيعي" جلبت إلى "حوزيرينا" (سلطان تپه اليوم، في أعالي البليخ).

وهنا نتساءل ألا يتعلق هذا الحدث بأمير من "غوزان" سموه "الأزاّلي" فإن المسافة لا تتجاوز في الواقع٥٠ كم بين "غوزان" (تل حلف) و "حوزيرينا" (سلطان تپه).

إلا أن "الأزاّلي" المذكور لا يمكن أن يكون الحاكم في "بيث بخياني"، لأن هذا لم يكن يدعى"ايتيعي" سنة ٨٦٦ ق.م. فإن مؤلف كتابة "تل فخيريه" كان له سلف يدعى "شمش نوري". فمن الأرجح أن يكون "الأزاّلي" هو "ايتيعي"، ابن شمش نوري نفسه، ملك غوزان في المستقبل.

وهذا ما يتماشى مع العلاقة بين غوزان وأزاّلو.

أما الهدايا والضرائب التي كانت تُجَلب إلى ملوك آشور، فلم يكن أصحابها هم الذين يقدمونها دوما.

 ويمكننا أن نتصور أن تكون الجزية التي حملها "ايتيعي" إلى "حوزيرينا" في الواقع جزية أبيه ملك "غوزان".

وتشير صفة "الأزاّلي" والحالة هذه إلى المساحة الجغرافية المحيطة بغوزان.

إلا أن هذا الشرح ليس مقنعا. فيبدو أن "ايتيعي" حمل جزيته الخاصة به.

فلو كان صاحب الجزية الحقيقي أباه، لكان من الغريب أن يغَفل عن اسمه، في حين أن "شمش نوري" كان معروفًا لدى كتبة آشور ناصربال.

وكان الآشوريون قد تعّلموا منذ قبل سنة ٨٦٦ ق.م. أن يميزوا بين "أزاّلو" ومملكة "غوزان".

فمن الأفضل أن نفترض أن الجزية التي قدمها "أزاّلو" كانت في الواقع جزيته الخاصة به، وأن "أزاّلو" لم يكن مجرد مساحة جغرافية، بل البلاد التي كان يحكمها.

وهكذا ربما يسعنا القول أن وريث ملك غوزان كان يحكم على رقعة جغرافية متميزة تُدعى "أزاّلو".

 وهذا لا يعني أن بلدي أزاّلو وبيث بخياني كانا يشكلان مملكة متحدة. فقد كان لكلٍّ من أزاّلو وبيث بخياني حاكمها، حينما توجه الملك الآشوري آشور ناصربال نحو البحر المتوسط. ولم يكن "أدد ايم" حاكم أزاّلو من قرابة ملك غوزان الذي قد يكون "كاپارا".

أما أن يكون أمير غوزان على رأس أزاّلو، فربما ان هذا الأمر جاء نتيجة إعادة تنظيم المنطقة من قبل السلطة الآشورية. وهكذا يكون آشور ناصربال الثاني قد وضع على عرش غوزان شخصاً مواليا للسلطة الآشورية، هو "شمش نوري"، وعلى عرش أزاّلو أحد أبناء هذا الشخص نفسه هو "هدو يت عي"، وبالأكدية "أدد يت عي" أو فقط "ايتيعي".

وهكذا كان في وسع ملك آشور أن يمارس على الجزء الغربي من بلاد خابور نوعا من السيطرة البدائية التي كانت تستند إلى تعاون عظماء المنطقة. وفي وقت لاحق، فُصلت أزاّلو عن غوزان، وأُلحقت بمقاطعة "تورتانو".

وهذا ما نلاحظه في كتابة القائد الأعلى "بيل - لوباّليط" الذي كان حاكما على طابيتو وحران وحوزيرينا ودورو وقيبانو وأزاّلو وبليخو.

حران

في العهد الآشوري الحديث لا يرد ذكر للدويلات الواقعة غربي بيث بخياني وأزاّلو إلا بصورة طارئة، عند الكلام عن المد المّتجه نحو كركميش وما وراء الفرات.

 ففي جنوبي حوزيرينا التي وقعت في أيدي الآشوريين منذ سنة ٨٩٩ ق.م.، تتجاهل النصوص زماناً طويلاً وادي البليخ ٤، ومعه حران التي كانت ستصبح أكبر تجمع بين غوزان وتل برسيب.

وهناك نص متأخر، أطلعنا عن طريق المصادفة على أن شلمناصر الثالث قام بترميم "إي هول هول" معبد الإله القمر في حران.

وفي نهاية القرن التاسع (نحو سنة ٨١٤ ق.م.) يزودنا نص "بيل لوباليط" بصورة أولى للبنية الإدارية في هذا الجزء من الإمبراطورية.

فلابد أن حران كانت قد خضعت بسهولة، شأن بيث بخياني. ويمكن أن يشرح صمتُ المصادر عن رجوعها إلى الَفلك الآشوري بالفقر الذي أصاب غربي الجزيرة كله في مطلع العصر الحديدي، وذلك اثر المصادمات الطويلة والعنيفة التي دارت بين الميتانيين والحثيين والآشوريين في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد.

 فقّلة السكان وحالة عدم الاستقرار الناجمة عن ذلك، بالإضافة إلى رداءة الملاحة في الفرات ما بين البليخ والخابور كانت عوامل خلقت حالة من الانحطاط في البلاد حتى عهد "السلام الآشوري ".

إلا أن مدينة حران كانت منذ العصر البرنزي الحديث مركزاً رئيساً لعبادة الإله القمر.

والأولوية الاقتصادية التي كانت تنعم بها في القرن السابع ق.م. في منطقة غربي الجزيرة كلها، تتأكد من جديد في الأضابير التجارية لمدينة مجاورة لها تُدعى "معلانا" ٥ .

وبعد آخر تاريخ ذُكر في هذه الأضابير (سنة ٦٢٠ ق.م.)، أصبحت حران العاصمة الطارئة لمملكة منهارة. فبعد سقوط هذه القلعة الأخيرة للإمبراطورية الآشورية وخراب المعبد "إي ٥٣٩- هول هول" على أيدي الماديين، استطاع نابونيد ملك بابل ( ٥٥٥ ق.م). أن يجدد هذا المعبد في نهاية عهده، وان يفتح لمدينة الإله القمر حقبة جديدة وطويلة جداً من الإشعاع الروحي.

ويمكننا أن نتصور أن حران، شأنها شأن حلب، حاولت تجّنب كل اصطدام مع السلطة الإمبراطورية.

 إنها اعتنت بوضعها الديني وعرفت أن تبسط تأثيرها في الشمال الغربي من بين النهرين وفي شمالي سوريا.

 فكان للإله القمر ومعابده تأثير كبير في معتقدات السكان وفي فنهم التصويري. إن أسماء الأعلام التي تتركب من اسم الإله القمر "رب حران" أو من صيغ مسمارية (سين، دنكر ٣٠ ) أو آرامية (شهر) ٦ لاسم هذا الإله، أو غالبا على اسم ابنه (نوسكو أو ناشوخ) تكون ربع أسماء الأعلام في المنطقة.

ونلاحظ أن تركيبة الأسماء في هذه المنطقة هي آرامية أكثر منها أكدية. وهذا ما يتيح لنا أن نرى أهمية العنصر الآرامي الذي قد يمّثل ٦٠ بالمئة من السكان، من الخابور بإتجاه الغرب.

وتجدر الملاحظة أن أسماء آشورية وأخرى آرامية تتداول في عائلة نفسها، ولا تؤثر في ذلك العبادة للقمر ولا المنافع الاجتماعية والاقتصادية.

وقد قمنا بتحليل ٥٠٠ اسم من الأسماء التي وردتنا من "الكتاب البيتي اليومي" أو من مصادر أخرى تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد.

 وفي المواقع المجاورة لغوزان، حيث تتيح أضابير الحاكم "مانو كي آشور" أن نُجري مقارنة تعاقبية، يبدو العنصر الآرامي أقل بروزا في القرن الثامن منه في عهد آشور ناصربال.

 وقد يعود هذا الأمر إلى ثقل وطأة السيادة الإمبراطورية سنة ٨٠٨ ق.م. ويبقى من المحتمل أن العرق الآرامي كان يشكل الأغلبية الساحقة قبل الانتشار الذي حدث في العصر الآشوري الحديث.

(يتبع الجزء الرابع)

١ لقد رأى البعض تقاربا بين هذا الاسم واسم أسروينا الذي كان يطلق على منطقة الرها الواسعة.

٢ هناك من يضع سقوط غوزان في علاقة مع الحملة التي قام بها إلى شرقي الفرات حزائيل ملك الآراميين في دمشق. وربما ان هذه الحملة جرت في نحو نهاية عهد شلمناصر الثالث (858 - 824-ق.م.)

٣ هناك من يرى أن "كاپارا" كان حاكما لبليخ بعد مقتل "جيامو" والغزو الآشوري لسنة ٨٥٣ ق.م. لمدة قصيرة. وربما أفلح في بسط سيطرته على منطقة غوزان. وهناك من يرى أيضا أن القطع العاجية التي عثر عليها في بلاط "كاپارا" المشابهة لتلك التي اكتُشفت في مدينة نمرود (كالح) والتي ترقى إلى القرن التاسع قبل الميلاد تتيح لنا تحديد عهد "كاپارا" بالقرن التاسع قبل الميلاد تقريبا.

٤ لذكر هذه المنطقة، علينا أن ننتظر الحملة التي قام بها شلمناصر الثالث سنة ٨٥٣ ق.م. وهو في طريقه إلى حماة.

٥ تتضمن هذه المجموعة ٦٥ لوحا، ٢٤ منها مكتوبة بالآرامية، وهي تتدرج من مطلع القرن السابع قبل الميلاد حتى سنة ٦٢٠ ق.م. وتظهر العلاقة مع حران بالأسماء "القمرية" الواردة فيها وبتكرار ذكر حران و"هدد" ملك غوزان.

٦ إن الآراميين الذين يستخدمون غالبا الاسم الأكدي للإله، يميلون إلى تفضيل صيغة "سيع" على "سين"، وذلك بالخط المسماري أو بالكتابة الأبجدية.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها