عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

 

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970


 الفصل الخامس مملكة أرباد

الجزء السابع

بيث أغوشي أو مملكة أرباد

في هذا المقال، نتوجّه الآن قليلاً نحو الغرب ونتكلم عن المنطقة الواقعة غربي "بيث أديني" وشمالي حلب.

 إنها مملكة "أرباد" التي تُسمى أيضًا "بيث أغوشي".

 بيث أغوشي والحكم الآشوري الأول

غوش ویاحان

بقدر ما تُطلعنا النصوص القديمة على هذه الممالك الصغيرة يتسنى لنا القول إن بدايات مملكة "أرباد" كانت متواضعة، شأن بدايات "بيث كبّار"، ومتأخرة أكثر منها.

 ففي نحو سنة ٨٧٠ ق.م، قام الملك الآشوري آشور ناصربال الأول بزحف مظّفر إلى ساحل البحر المتوسط، وبلغ إلى منطقة "باتينا".

وتوقف أولاً عند "حزازو"، ثم شدّد أعماله الحربية على مدينة "كونولوا" الملكية التي يمكننا تحديد موقعها في "تل تعيينات" القريبة من أنطاكيا، وقد تكون أيضًا في الموضع الذي كان يدّعى سابقًا "ألالاخ" (تل عطشانه).

وفي هذه العاصمة، تلقى جزية غوش الياحاني. وهذا الزعيم هو في الأصل من مملكة بالغة الأهمية ستحمل اسمه حتى عهد تغلاتفلاصر الثالث ( ٧٤٤-٧٢٧ ق.م).

ولكننا نلاحظ، من خلال حوليات آشور ناصربال، ان منطقة "غوش" لم تكن بعدُ مركزاً حضرياً من شأنه أن يجتذب أطماع آشور.

 وهذا ما يناسب فقر هذه المنطقة الواقعة شمالي حلب، وذلك استنادًا إلى آثار يمكن تحديد تاريخها قبل هذا الزمان.

من الأرجح أن "غوش" وسكانها لم يكونوا بعد قد استولوا على منطقة "ياحان" كلها.

ومنذ الحملة الكبيرة الأولى التي قام بها شلمناصر الثالث سنة ٨٥٨ ضد "بيث أديني"، نلاحظ أن شخصاً يُدعى "أدان"، أمير ياحان، قد انضمَّ إلى معظم البلدان الأخرى الواقعة في الشمال الغربي من سوريا، لكي يصدّوا الطريق بوجهه، بينما نرى أن ابن غوش، الذي كان يُدعى "آرامِي" يؤدّي الجزية للملك الآشوري.

وهذا ما قد يتيح لنا الإفتراض أن سيطرة "غوش" لم تكن تمتد إلى جميع مناطق الياحانيين.

 ويبدو لنا من الطبيعي أن نفهم اسم "ياحاني" اللطيف مثل اسم جغرافي مشتق من كلمة "أحانو".

وكان آشور ناصربال الثاني الذي قدم من الشرق، قد ترك عن شماله جبلاً بهذا الاسم، قبل وصوله إلى "حزازو"، ولا يكون سوى جبل سمعان، لأن "عزاز" الحالية، وهي على الأرجح "حزازو" المذكورة، تقع بالضبط شمالي هذا الجبل.

وإذا كانت "ارباد" هي "تل ريفات"، التي ستكون عاصمة خلفاء "غوش" في المستقبل، تقع على المنحدرات الشرقية الواطئة من هذا التكوين نفسه، أي على مسافة نحو ٣٥ كم شمالي حلب، فإن جبل سمعان كان لياحان ما كان أمانوس لسمأل.

 مملكة آرامِي، ابن غوش

 كل الدلائل تشير إلى أن مدينة "أرباد" لم تشغل موقع التسّلط في "بيث أغوشي" طوال القسم الأول من القرن التاسع قبل الميلاد.

 فلا أثر لها في النصوص، ويبدو أن العاصمة كانت في موضع آخر. وهذا ما تطلعنا عليه حوليات شلمناصر الثالث، لسنتيه العاشرة والحادية عشرة.

 وبالرغم من الموقف المسالم الذي اّتخذه "آرامِي" طوال قضية "بيث أديني"، والهجوم الآشوري الأول على حماه والمتحالفين معها، فإنه هو الابن الأول لغوش نعرف اسمه، ويبدو انه تشجّع بالإخفاق الجزئي الذي مُني به شلمناصر الثالث سنة ٨٥٣ ق.م، فدخل المعمعة أخيراً، وفقدَ نحو مئة من "مدنه"، من ضمنها "مدينته الملكية" "أرني" ومدينة "أبارازو" الحصينة.

 وهناك من يرى أن موقع "أرني" قد يكون "تل أرانه" الواقعة على بُعد نحو ٢٠ كم في الجنوب الشرقي من حلب. ويرى آخرون انها "تل عرين" الواقعة على بعد نحو ٢٠ كم في الجنوب الغربي من "أرباد". انه الجزء الغربي من "بيث أغوش" الذي تعرّض لهجمات شلمناصر الثالث.

ومن الصعب أن ننسب أراضي تقع شرقي حلب إلى ابن غوش منذ الربع الثاني من القرن التاسع. ونحن نعلم أن حلب كانت تتمّتع إذ ذاك بحكم ذاتي.

وكانت المنطقة الواقعة في الشمال الشرقي من حلب، مع "دابيغو" الواقعة على "القويق"، تعود كلها إلى "بيث أديني" إلى سنة ٨٥٨-٨٥٦ ق.م.

 لا شك أن اندحار "أحوني" خلق فراغًا في ممتلكاته القديمة الواقعة غربي الفرات، وقد استفاد من ذلك مختلف البلدان لتوسيع حدودها.

وفي سنة ٨٤٩- ٨٤٨ ق.م، أصبحت أراضي "آرامي" وأراضي "سنغرة" - صاحب كركميش - متاخمة. وكانت حملات شلمناصر الثالث في المنطقة تقود جيوشه من كركميش إلى أمانوس، باّتباع وادي "عفرين".

فيجب إذًا أن نبحث عن "ارني" في هذه الجهات. وكانت ” تل عرين " أيضاً تقع في تلك الجهات.

 وإذا كانت هذه الافتراضات صحيحة، وان "ارني" تكون في الجنوب الغربي من "جبل أحانو"، فإننا نفهم ان تكون "غوش"، والحالة هذه، قد شعرت بكونها مضطرة إلى استجداء عطف آشور ناصربال الثاني.

 ولا يبدو أن الأراضي، التي ورثها "آرامِي"، قد امتدت كثيراً إلى ما وراء جبل سمعان.

 وكان الأفق في الجنوب الشرقي مقفلاً بواسطة حلب.

وهكذا كانت أراضي "آرامي" محدودة بباتينا: تحدّها "حزازو" من الشمال، و"كونولوا" من الغرب.

 ولا ندري هل ان موقع "عين دارا" الحّثي القديم، الكائن على الشاطئ الأيسر من نهر "عفرين"، حيث يتوجّه هذا النهر الصغير نحو سهل أنطاكيا، كان يشكّل جزءًا من هذه الدولة، أو أن هذا الموقع كان مركز إمارة قائمة بذاتها وغير معروفة في النصوص.

ولكن، سواء عادت "عين دارا" إلى "باتينا" أو كانت مستقلة، فإنها لم تكن سوى على مسافة قريبة غربي "تل عرين “.

 عطار  سُمك ومملكة أرباد

لقد دام حكم "آرامي" في الأقل حتى سنة ٨٣٣ ق.م، حينما استولى شلمناصر الثالث، لدى عودته من حملته الأخيرة على الأناضول، على إحدى قلاعه وجعلها مقرَّ إقامة له، بدون أن يبدي "آرامي" حراكاً.

وربما انه ظل خاضعاً للإمبراطورية الآشورية منذ سنة ٨٤٨ ، وذلك بالنظر إلى اجتيار الجيوش الآشورية المتواتر في تلك المناطق. وفي تاريخ نجهله، استُبدلَ بابنه "عطار – سُمك".

ومن الأرجح أن يكون هذا التغيير قد جرى في نهاية عهد شلمناصر المضطرب، أو خلال حكم خَلفه شمشي أدد الخامس ( ٨٢٣-٨١١)، الذي اّتسم بكثير من الضعف على الصعيدَين الإداري والعسكري.

 أما "عطار – سُمك"، فقد استغلَّ هذا الضعف لكي يرفع من شأن شعبه، ولكي يوسّع مملكته في جميع الإتجاهات، حتى انه جعلها خصماً رهيباّ للاستعمار الآشوري.

 أرباد

إن "عطار – سُمك" هو الأول بين أبناء "غوش" الذي أُطلق عليه لقب"أربادي. ولكننا لا ندري هل هو أول من سكن في "تل ريفات".

مهما يكن من أمر، فإنه هو الذي جعل "أرباد" مدينة عظيمة. وكانت "أرباد" تقع في وادٍ على السفح الشرقي من جبل سمعان، على مسافة ١٣ كم غربي نهر "القويق"، و ٣٥ كم شمالي حلب.

وكانت المدينة قابعة على منحدرات واطئة وخصبة، حيث لم تكن الأراضي تمتص المطر بسرعة، كما هو الشأن فوق على الهضبة الكلسية.

وكان هذا الموقع يسكنه الإنسان منذ العصر النحاسي، ولكنه لا يبدو انه كان له ماضٍ حضَري قبل عهد "بيث غوش".

ويُعتبَر ازدهاره نجاحاً للشعوب الآرامية. وانطلاقًا من هذه العاصمة، انتشرت المملكة وامتدّت، بدءاً من ضمّ حلب إليها.

ضمّ حلب

من الأرجح أن ننسب ضمّ حلب إلى مملكة "أرباد" إلى "عطار سُمك"، أو إلى أحد خلفائه، وليس إلى "آرامِي" الذي تقدّمه لنا النصوص عادة في دور انفعالي وجامد.

وكانت حلب، في العصر البرونزي الوسيط، مقراً "للملك الكبير" يمخاد.

 إلا أن حظّها تعّثر منذ الحملة التي قام بها "مورشيلي" في مطلع القرن السادس عشر ق.م.

 أما في عهد الإمبراطورية الحّثية الأخيرة، فكانت حلب تُعتبَر مثل مدينة مقدسة، وكانت تحتفظ باستقلال نسبي.

وبالرغم من ثلاث كتابات محلية اكتُشفت في بابل، وورود ذكر "لرجال حلب" في "أوراتاميس" من حماه، فهي لا تظهر كثيراً في المصادر المكتوبة في العصر الحديدي.

 أما المصادر الأكدية، فعلينا أن ننتظر سنة ٨٥٣ ق.م. لكي نجد لها أثراً.

 أما الملك شلمناصر الثالث، فقد توقف في "حلمان"، في زحفه إلى حماه، وبعد ان ترك "بترو" على الفرات. فأدت مدينة "حلمان" الضريبة المفروضة، وضحى الملك "لإله العاصفة" فيها.

ويتفق الجميع على أن يروا حلب ههنا، ولو أن اسم هذه المدينة يُكَتب في الأغلب "حلبا". وكانت حلب في الواقع مركزاً شهيراً لإله العاصفة، يعبده الآشوريون والآراميون والعموريون والحوريون والحّثيون... وبحسب رواية شلمناصر الثالث، كان "آرامِي" قد أدّى له الجزية، وقد فعل سكان حلب مثل ذلك أيضاً.

وسكانها أنفسهم، وليس سيد يسكن في موضع آخر، هم الذين قرروا أن يفتحوا له أبواب المدينة.

 وهذا لا يمنع من أن يكون لحلب نوع من الحكم الذاتي، تحت وصاية ابن غوش. وربما يسعنا التفكير في تنظيم واهٍ، مثل التنظيم الذي أتاح ل "كبرانو" من بيث أديني أن يقاوم آشور ناصربال الثاني، بدون أن يستشير "أحوني".

وكان في وسع شلمناصر أيضاً أن يأخذ ذهب حلب، بالإضافة إلى ذهب "آرامِي"، كما كان آشور ناصربال الثاني قد فعل حينما أخذ الجزية من "حزازو" وكذلك من "كونولوا".

وتوحي أحداث "حلمان"، التي جرت سنة ٨٥٣ ق.م، بأن حلب كانت ما تزال مستقلة عن بيث أغوشي في منتصف القرن التاسع.

 ومنذ الربع الثاني من القرن الثامن، نلاحظ أن حلب تعود إلى "أرباد". ويمنع نصب "سفيرة" الثالث ملكها من أن يسمح للّاجئين السياسيين بأن يجدوا ملجأ لهم في حلب.

وربما جرت فترة الإنتقال هذه منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع.

 ففي "بريج"، الواقعة على مسافة ٧ كم شمالي حلب، اكتُشفَ النصب المخصّص "لملقارت"، وهو مكتوب بالآرامية، وقد أقامه له شخص يُدعى "بر – هدد".

 وهناك آثار أخرى بالآرامية القديمة اكتُشفت بالقرب من حلب، وهي مكتوبة في القرن الثامن، أو في نحو سنة ٧٠٠ ق.م، كما جاءت في أنصاب جنائزية في "نيرب"، وهي قرية تقع على مسافة ٦ كم إلى الجنوب الشرقي من حلب. وتؤكد هذه الكتابات أن المدينة محاطة بسور، وتشير أيضاً إلى امتداد "أرباد" نحو الفرات الشمالي إلى "جبّول".

فهذان الموقعان يمكن تشخيصهما بوضوح من بين إحدى عشرة مدينة للمملكة، ورد تعدادها على نصب "سفيرة" الأول. ويمكننا إضافة "رين" إليها، ويبدو انها "تل أبي راني"... ومهما يكن من شأن بعض تفاصيل جغرافية - تاريخية، فإن امتداد "بيث أغوشي "نحو "جبّول"، فتح أمامها غدراناً مهمة زودّت سوريا كلها بالملح، في هذه الأزمنة العصرية في الأقل.

 توسُّع على حساب "باتینا"

ان مملكة أرباد توسعت أيضاً على حساب "باتينا". ففي مطلع القرن التاسع قبل الميلاد، كان امتداد هذه البلاد وثروتها عظيمين. لكن الضعف اعترى هذه الثروة من جرّاء الضرائب الكثيرة التي كان الآشوريون يفرضونها عليها. وقبلت البلاد بتأدية الجزية، بعد أن قاومت عبثاً الحملة التي شُّنت ضد "بيث أديني" سنة ٨٥٨ ق.م. ولقد ازداد وضعها ضعفًا سنة ٨٣١ ق.م، حينما تدخل شلمناصر الثالث ضد مغتصب كان يلقى مساندة حزائيل ملك دمشق. ومنذ عهد شلمناصر، يبدأ الاسم الآرامي "عمق" بالتناوب مع اسم "باتينا".

ويمكننا الاعتقاد أن عناصر آرامية تسربّت أكثر فأكثر في البلاد، وان البلاد فقدت قسماً كبيراً من أراضيها لصالح "أرباد" وحماه. وهذا ما يشير إليه القبول بأن يكون نهر الأورونت (العاصي) حدوداً مشتركة بين ملوك أرباد وحماه في عهد الملك أدد نِراري الثالث، أي من الأرجح خلال العقد الأول من القرن التاسع. وكيفما تصوّرنا منطقة لقاء هاتين المملكتين، فإن وادي عَفرين كله كان منذ ذلك الوقت في حوزة "أرباد".

 وفي الشمال، امتدت مكاسب "بيث أغوشي" على حساب "باتينا"، حتى "حزازو" في الأقل. لأن هذه المدينة تُنسَب إلى بيث أغوشي في نصوص أخرى ترقى إلى القرن الثامن قبل الميلاد، بحسب نصب "سفيرة" الأول، ولائحة لتغلاثفلاصر الثالث. لكن تواريخ هذه النصوص مجهولة.

ولا يمكن أن يكون إلحاق "حزازو" قد جرى إلا بعد سنة ٨٥٨ ق.م. ففي هذا التاريخ، كان شلمناصر الثالث ما يزال يضع "حزازو" في باتينا.

 إلا أن هذه المدينة كانت قد اجتازت إلى أيادٍ أخرى في نهاية القرن.

 نزعة عطار – سُمك التوسعیة

كان القسم الأول من حكم "عطار  سُمك" عهد التوسّع الأمثل لبيث غوش. فإن الفراغ، الذي حدث من جراء إلغاء بيث أديني ومن جراء ضعف حلب وباتينا، وّفر المجال أمام ملك أرباد الجديد، ولاسيّما أن الإمبراطورية الآشورية كانت قد تعرّضت لهزة عنيفة من جراء التمردّ الذي وقع سنوات ٨٢٧-٨٢٢ ق.م بين أي في نهاية عهد شلمناصر الثالث، وكانت منشغلة، في منطقة "نائيري" وفي البلاد البابلية في عهد شمشي أدد الخامس ( ٨٢٣-٨١١ ق.م).

 ولكننا لا نعلم كيف استطاع "عطار – سُمك" أن يستولي عسكرياً على هذه الأراضي الجديدة. لا شك انه قبل أن يكون جامع الأراضي، عرف أن يجمع حوله قبائل كثيرة والعديد من الزعماء الآراميين، ومن ثمة هذا لنوع من التعّقد والتنوّع في الدولة الأربادية، إن لم نقل في الإمبراطورية الأربادية.

 التدخّل الآشوري

كان "عطار  سُمك" واعياً بضعف مثل هذه الدولة المركَّبة، فحاول أن يستخدم فنّ الأحلاف في سياسته الخارجية.

فحينما جابه أدد نراري الثالث في "باكاراهوبوني"، هذه الأراضي  التي ربما كانت تعود إلى "كموخ"  كان ثمانية من جيرانه يساندونه.

 وقد حُفظت أسماء زعماء هذا التحالف والموضع الذي فيه دارت المعركة، في أنصاب "بازارسيك"، وهي تل شيخ حماد.

 ويُشار إلى خطورة هذا الخلاف في وثائق أخرى تحتفل بالفشل الذي لحق، في السنة نفسها، بجميع ملوك "حطي" الذين كانوا قد رفضوا دفع الجزية في عهد شمشي أدد الخامس. وكانت السنة المذكورة هي سنة ٨٠٥. وقد أتاح النصر لأدد نراري الثالث أن يفرض الحق في سوريا الشمالية، وأن يعيد أو يوسّع حدود "كموخ".

إلا أن النصر لم يكن كاملاً. ذلك لأن أرباد لم تُحَتل. ولم تُدفع الجزية إلا في البلاد الآشورية.

 وتذكر الحوليات أن حملة جديدة جرت سنة ٨٠٤ في سوريا الشمالية ضد "حزازو" (التي لا بد أنها كانت أربادية).

ونستطيع أن نفترض أن أرباد أُخضعت بهاتين الحملتين، وأن نتصور أن الجيوش الآشورية اجتازت من جديد في أراضيها خلال الحملتين التاليتين "ضد البحر"، أي ضد "ارواد" سنة ٨٠٢ ، وضد "بعلو" سنة٨٠٣.

التحالف الكبیر ضد زَكّور

لم تمر على هذا الخلاف سوى بضع سنوات، حتى خاض "عطار سُمك" مغامرة جديدة، لسنا مطّلعين بكفاية على تفاصيل أحداثها ولا على نتائجها. وكان "زكّور" الآرامي قد أفلح في تشكيل نظام ملكي مزدوج بين حماه ولُعُش.

وكان هذا النظام يمتدّ نحو الشمال حتى "تل أفيس" في الأقل، على نحو ٤٠ كم في الجنوب الغربي من حلب. وكان "بر هدد" الدمشقي غير عابئ كثيراً بأن تكون أسواق الشمال مفتوحة أمام مملكة تعادل المملكة التي ورثها عن أبيه.

 وكان توسّع حماه يعيق خطط "عطار – سُمك" في شأن "ُلعُش"، الدولة المجاورة والضعيفة سياسياً.

 وانضمّ ملك أًربادً إلى التحالف الذي شكّله "بر هدد"، وجلب معه حلفاءَه الحِثّيين الجدد.

وهكذا فقد جاء ستة عشر ملكًا وحاصروا "زكّور" في "حزرك" عاصمته الشمالية.

 أما أدد نراري الثالث الذي كان يفضلّ سوريا منقسمة، فاضطر إلى الإيعاز إليهم بالتفرّق، أنهم لم يستولوا على المدينة.

وأصبح "بر هدد" وحده موضع ملاحقة "أدد نراري"، الذي انتصر عليه سنة ٧٩٦ ق.م. في "منصواة" الواقعة في البقاع، ثم دخل إلى دمشق.

 إلا أن الحظوة التي كانت لز ّ كور لدى الإمبراطورية الآشورية لم تدم طويلاً، وذلك إما بسبب عدم غيرة من جهته، أو لأن أدد نراري الثالث أراد الاهتمام بأرباد، بالنظر إلى موقعها الستراتيجي، فإن أدد نراري، أو بالأحرى شمشي ايلو الذي كان قد أوشك على الاستيلاء على السلطة، اّتخذ قراراً لصالح "عطار – سُمك" في خصام مع زكّور في ما يتعلق بـ "نحلازي"، الواقعة على نهر الأورونت (العاصي).

ولا بد أن هذا الأمر جرى بعد سنة٧٩٦ ق.م. بمدة طويلة. إلا أن الإمبراطورية الآشورية تجّنبت كل معركة، لأنها كانت غير واثقة بأرباد في عد حرب "حزرك".

متي - أیل  ونهاية مملكة أرباد

معاهدات متي - أیل

بعد هذه الأحداث، خيّمَ الصمت على أرباد طوال نحو أربعين سنة، ولا ندري متى انتهى حكم "عطار- سُمك" الطويل. أما في الإمبراطورية الآشورية، فقد انشغل الملك شلمناصر الرابع (٧٧٣-٧٨٢ق.م) وآشور - دان الثالث (٧٧٢-٧٥٥ق.م) وآشور نراري الخامس (٧٥٤-٧٤٥ق.م) بمواضع أخرى، بينما كانت الثورات والانتفاضات تهز قلب مملكتهم.

وكانت هيمنتهم مهدَّدة بمطامع "أورارتو" المتزايدة. وإذا اعتمدنا المعطيات الآشورية، فإن ملوك أرباد اضطُرّوا إلى التعامل مع القائد الأعلى "شمشي – ايلو" في هذه الفترة. وعلينا ألا ننسى الشهرة التي كانت "كركميش" تنعم بها في تلك الحقبة. ففي عهد ملوكها، أمثال "يريريس" و"كمانيس"، أصبحت حقًا جارة مزعجة.

 في سنة ٧٢٤ ق.م، تعرضت أرباد لحملة آشورية. ولدينا بقايا من معاهدة آشور نراري الخامس مع "متي – ايلو".

 إلا أن عناوينها قد فُقدت. وتُظهر معاهدة "سفيرة" ونصّان لتغلاثفلاصر الثالث أن متي - ايلو هذا كان "متي – ايل" بن "عطار – سُمك"، ملك أرباد، ابن غوش، وقد حكم حتى سنة٧٤٠ ق.م. وبما أن حملة سنة ٧٥٤ حدثت منذ السنة الأولى من حكم آشور نراري، فلا بد أنها سبقت هذه المعاهدة، وربما كانت أساساً لها. وقد يكون سبب إبرامها حركة استقلال في فترة الإنتقال بين آشور دان الثالث (٧٧٢-٧٥٥ ق.م). وآشور نراري الخامس (٧٥٤-٧٤٥ق.م).

إن هذه المعاهدات تشير إلى النشاط الدبلوماسي الذي كان ملوك أرباد يبذلونه في هذه السنوات، حيث يذكر قليل من الالتزامات العسكرية في بلادهم. وقد ورث "متي – ايل" فن التحالف الذي مارسه والده. إلا أن اختيار"متي – ايل" قاد مملكته إلى الدمار.

 المعاهدة الأورارتیة المدمِّرة

تحالف سردور الثاني

إن الإختيار المشؤوم الذي أقدم عليه "متي  ايل" كانت المعاهدة الأورارتية. فكانت "أورارتو" لا تفتأ تتوسع ابتداءً من بحيرة "وان"، وكانت وصايتها تُفترَض على كل دولة شمالية ترغب في التمّلص من النفوذ الآشوري. وإذا اقتصرنا هنا على الحديث عن المناطق القريبة من "أرباد"، فإن حملات الملك "مِنوا" كانت قد بلغت العهد الحِثّي الحديث في مطلع القرن الثامن، إذ دخل منطقة "ميليد" (ملاطية).

واشتدّ الضغط الأورارتي في عهد "أرغيشتي" الأول (٧٨٩-٧٦٦ ق.م)، واضطر شلمناصر الرابع - أو  بالأحرى شمشي ايلو الذي يتباهى بانتصاره، في كتابة عُثر عليها في تل أحمر إلى أن يعيد الزحف إلى أورارتو ستَّ مرات (٧٨١،٧٨٠،٧٧٩،٧٧٨،٧٧٦،٧٧٤).

وإذا كان عدم الاستقرار الداخلي قد شغل انتباه آشور دان الثالث وآشور نراري الخامس، فإن التهديد الأورارتي لم يتلاشَ، بل ازداد حدّةً مع "سردور" الثاني (٧٦٥-٧٣٣).

وبعد منتصف هذا القرن بفترة - وجيزة، استولى على "كموخ" وعلى "ميليد". وقد انضمّ إلى معاهدته أيضاً متي ايل وملك كركم، وبذلك أثارا ردّ فعل الملك الآشوري الجديد، تغلاتفلاصر الثالث.

 ويظهر الدور الحاسم الذي قامت به "أرباد" من ان ملك "كموخ"، مع ملكَي "ميليد" و"كركم"، ما يزالون ماثلين بين الذين يؤدون الجزية للإمبراطورية الآشورية سنة ٧٣٨ ق.م. أما ملك أرباد فليس من بينهم. والخطر الذي كانت مملكته تمّثله سيحمل تغلاتفلاصر على حّلها.

والمكان الذي احتلته أرباد لوقت ما في النزاع القائم بين الإمبراطورية وأورارتو قد يكون ذا علاقة بالتقدم المدهش الذي حققته اللغة الآرامية نحو الشمال الشرقي.

 وقد أظهرت ذلك كتابةٌ آثارية آرامية اكتُشفت سنة ١٩٩٤، وهي تعود إلى عهد سرجون الثاني في البلاد المانيّة.

ولقد تمّ هذا الاكتشاف بالقرب من بوكان في كردستان، وهي ما تزال قيد الدرس، وستُن َ شر في المستقبل القريب.

إنتصار آشوري وتصفیة أرباد

إن حالة كتابات تغلاثفلاصر الثالث الرديئة تجعل من الصعب تحديد موقع العمليات الحربية وإعادة تكوين مجراها. ويُعتَقد ان المعركة الحاسمة ضد "سردور"، قبل اجتياح "كركم" ثم "أرباد"، جرت في "كموخ"، وان هجمة تغلاتفلاصر الصاعقة ربما قادها ملك "كموخ" الذي كان ضحية أورارتو أكثر منه حليفها.

 ولكننا لا يسعنا أن نوّفق بين الكتابات التي تضع هزيمة أورارتو سنة ٧٤٣ ق.م. في أرباد، وبين الكتابات التي تضعها في "كموخ". ومع ذلك، فهناك معطيات يمكن التعويل عليها. مهما يكن من أمر، فإن مملكة "أرباد" المنحّلة كوّنت مقاطعتين في الأقل، وهما الأوليان اللتان شُ ّ كلتا غربي الفرات.

 وقد عُثر في نمرود (كالح) على رأس صولجان برونزي مطبوع بإسم ملكها الأخير.

الأراضي الأربادیة بعد الغزو

لا نكاد نعرف شيئاً عن هذه المنطقة وعن شعبها الآرامي طوال بقية العصر الحديدي.

ويبدو أن أهم المواقع قد استمرّت في الوجود بعد الغزوات المتتالية.

 ولكننا لا نلاحظ فيها أي تقدم حضاري.

إن أنصاب "سيع كبّاري" (اسم آرامي) و"سن - زير- ايني" (اسم آشوري)، وهما كاهنان للإله القمر في "نيرب"، ما تزال تعكس التقليد الفني والاسلوب المتّبَع في الأنصاب الجنائزية الحّثية - الحديثة والآرامية الأقدم منها.

انها في الوقت نفسه مطابقة للفن الإعلامي وللتديّن في سوريا الشرقية في العهد الآشوري.

من العهود البابلية - الحديثة لدينا عقد بيع لسنة ٥٧٠ ق.م. (وهي السنة ٣٤ لمُلك نبوخذنصر الثاني)، وهو اللوح الآرامي الوحيد الذي وصلنا من مملكة أرباد السابقة.

ويُلاحَظ هنا تغلّب المقوّم "بيث – ايل" في الأعلام. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاسم ليس نادراً في الشرق، وسنجده في الألواح الآرامية التي اكتُشفت في مصر.

إلا أن ذكره في هذا العقد يحدونا إلى التفكير في حضور "بيث- ايل" مثل اسم إحدى مدن مملكة أرباد.

أما الألواح المسمارية التي وُجدت في "نيرب"، فمن الأرجح أنها كُتبت في بلاد بابل، وقامت بذلك عائلة من المنفيين هناك. فلا بد أن هؤلاء الناس كانوا قد نُفوا من "نيرب" في عهد نبوخذنصر الثاني الذي اجتازت جيوشه سوريا مرات عديدة.

ولقد تبّنى معظم هؤلاء المنفيين أسماء بابلية.

 إلا أن أحفادهم عادوا إلى بلدانهم الأصلية في نحو نهاية القرن السادس قبل الميلاد، وحملوا معهم هذه الوثائق النفيسة.

(يتبع الجزء الثامن)

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها