عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

أنا بكل صراحة أميل الى أختيار القومية الآرامية

الأب المؤرخ ألبير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.


مــن   نحــن؟

 و مـا  قـو ميـتـنــا؟

 ")أنا بكل صراحة أميل الى أختيار "القومية الآرامية (”

كركوك  ، في  8  تمـوز  2009

      إن  هذا الموضوع  قد أثار الكثير من العواطف والشجون ، وأسالَ المزيد من المداد  على صفحات  المجلات ، وشغلَ الأوقات الطويلة في متابعة برامج الانترنيت وغيرها من وسائل الإعلام العصرية

. والكل في هرج  ومرج ، وفي التردد والحيرة امام هذا الموضوع الذي يعتبرونه بحق حيويـًا  لحياتهم ، افرادًا كانوا او مجتمعات ....

 وما يدعو للأسف الشديد هو ان معظم الذين تطرقوا الى هذا الموضوع ، تناولـوه  بكثير من التزمّـت العرقي او الطائفي او المذهبي ، ولم يتيحوا المجال لعقولهم  لتنير لهم الدرب الى الحقيقـة . وبئس الدليل  العاطفة متى ما غاب عنها نور العقل وحسن الإرادة !

    أودُّ الآن ان أوجّـه  كلمة أخوية الى بني قومي  في شأن هويتهم وقوميتهم .

ومن البديهي اني لا أرمي الى تنصيب نفسي حكمًا  في قضية خطيرة مثل هذه ، ولا ان أفرض آرائي على أحد ، كائنًا من كان .

 إنما ادعو الجميع ليقرأوا هذه الكلمة التي تنبثق من اعماق نفسي ، وليتّخـذوا موقفًا حـرًّا تجاهها ، أي موقفًا  نابعًا من حريتهم العميقة  المستنيرة بالعقل والإرادة ، كما قلتُ سابقـًا .

أرضيـة  صـلبـة

هلموا نستعرض معًا  تاريخ منطقتنا الطويل ، ونذكر بإيجاز  الشعوب التي عاشت فيها  وتركت فيها بصماتها . ولست هنا في صدد الحديث عن فترة " ما قبل التاريخ " ، التي لا نعرف عنها الشيء الكثير .

 إنما تقتصر معلوماتنا عنها  على آثار الانسان القديم في المغاور والكهوف ، وعلى بعض الأدوات التي استخدمها في حياته البدائية ، سواءً للدفاع عن نفسه ، او في سبيل الحصول على معيشته  من النباتات والحيوانات .

وتدل هذه  الأدوات والنقوش  التي وُجدت  على جدران بعض الكهوف  على مدى ذكاء هذا الانسان  وطريقة تعامله مع الطبيعة  وما فيها .

ا لسـو مـر يـو ن

هم من الشعوب الأوائل الذين سكنوا ارض الرافدين ، وقد ظهروا فيها منذ الألف الخامس قبل الميلاد .

ويُعتقَـد انهم أقبلوا من الشرق ومن الجنوب الشرقي ، واستقروا في بادىء الأمر في اقصى جنوب ما بين النهرين ، وشيّدوا في تلك المنطقة المدن الاولى ، وأشهرها :

اريدو ، واور ، والوركاء  ( اوروك ) .

ثم امتدوا تدريجيًا نحو شمال البلاد ، حيث التقوا بأقوام أخرى ، دُعيت سامية ،  كانت قد أقبلت الى المنطقة بعد الألف الرابع قبل الميلاد .

 أما السومريون، فكانوا من الشعوب التي تميّزت بذكاء شديد  وبمخيّلـة خلاّقـة تفتقت عن ميثولوجيات  مدهشة  تتناول مختلف نواحي حياة الانسان  وعلاقته بعالم الآلهة والطبيعة والبشر

 . إلا ان اكبر إنجاز تمخضت عنه عبقرية السومريين كان ابتكارهم الكتابة في نحو سنة 3200 ق.م. ويبدو ان السومريين  كانوا موهوبين ونشطين اكثر من الساميين .

 وقد بدأ التاريخ المدوَّن عندهم  في نجو منتصف الألف الثالث قبل الميلاد.

  وكانوا روّاد الحضارة الإنسانية  وواضعي الملاحم الشهيرة  - منها ملحمة كلكامش التي ما تزال تثير إعجابنا  .

وقد اشتهروا ايضًا في مضمار العلوم والفنون والموسيقى ، وخير شاهد على ذلك  القيثارة الذهبية التي عُثر عليها  في مدينة " اور " (قرب الناصرية ، جنوبي العراق) وهي تعود الى نحو سنة  2450 ق.م. .

وكانت اور قد فرضت هيمنتها  على البلاد مدة طويلة  من سنة   2600 حتى سنة 2450 ق.م. .

وتبعتها سيطرة " لكش " ( من سنة 2450 حتى 2340 ق.م.(

ا لسـا ميـو ن

  إنهم أقوام  أقبلوا من الحدود الشمالية والشمالية الشرقية من الصحراء السورية - وقيل من الجزيرة العربية – حيث كانوا يعيشون  منذ أقدم الأزمنة كرحّـل ، عاكفين على تربية المواشي، فتسربوا الى بلاد الرافدين  منذ نحو نهاية الألف الرابع قبل الميلاد ، وأقاموا اولاً  في القسم الشمالي من بلاد الرافدين  وفي القسم الأوسط منها ، ثم انحدروا شيئًا فشيئًا نحو الجنوب حيث التقوا بالسومريين ، وشرع الشعبان يتمازجان  على مدى القرون ويقيمان ثقافة مشتركة وحضارة غنيـة .

وفي حين ان السومريين  انفصلوا عن اوطانهم الأصلية  وعن أبناء عرقهم  وعاشوا منقطعين عنهم ، حافظ الساميون على  صلتهم بأبناء عرقهم ، وتلقوا منهم دمـًا متجدّدًا  طوال مجرى التاريخ . وكانت نتيجة امتزاج  السومريين بالساميين ، ان السومريين ذابوا فيهم شيئًا فشيئًا  وفقدوا كيانهـم .

ا لأ كـد يـو ن 

توطّـدَ  كيان الساميين على مدى القرون ، فكوّنوا دولة قوية  بزعامـة سرجون الأكدي، ودامت نحو قرنين (2340 – 2159 ق.م.) .

 وفي سنة 2159 ق.م. ، زحفت أقوام  كوتيـة  قادمة من  الجبال ، واستولت على منطقتي  أكـد  وسومـر  ودمرتهما .

ولكن ما إن مـرَّ على ذلك الدمار بضع سنين ، حتى قامت سومر  سنة 2150 ق.م.  من رقادها بزعامة ملكها " كو د يـا " الذي رفع لواءَه في مدينة " لكش " .

ومن سنة  2111 ق.م. ، أدارت سلالـة اور الثالثة دفة الحكم في البلاد .

وفي سنـة  2003 ق.م. ، أقبل الأموريون  من غربي الفرات  وأسقطوا الدولة السومرية ودمروا  مدنها .

البابـليـو ن

 تأسست بابل في نحو سنة 1900 ق.م. ، واستمرت في الحكم على البلاد من سنة 1894  حتى سنة 1594 ق.م. .

 وأشهر ملوكها  " حمـو ر ا بـي :

 (1792 – 1750 ق.م. ) الذي تميّـزَ بإدارته الحكيمة ، ولاسيما بشريعته الشهيرة التي جاءت اكمل شريعة عرفها التاريخ القديـم .

وفي تلك  الغضون ، لاحت في الأفق  بوادر الدولة الاشورية  الاولـى ( 1815 – 1782 ق.م. ) ، بزعامة  الملك شمشي أد د .

 اما الدولة البابلية ‘ فواصلت مسيرتها بكثير من النجاح حتى سنة 1594 ق.م. ، حيث جاء الحثيـو ن ، وهم أقوام من آسيا الصغرى ،  واستولوا على بابـل .

 وقد استولى  " الكشيـون " ايضًا على بابل ( 1610 – 1157   ) ،بعد تراجع الحثيين عنها.

ومن اشهر ملوك الكشيين  الملك كوريكلزو  ( 1438 – 1412 ق.م. ) الذي خلّـد اسمه بزقورته  التي ما تزال قائمة  بالقرب من بغداد .

ا لا شـو ر يـو ن  ( 1365- 1020 ق.م. (

وكان الاشوريون قد ظهروا في القسم الشمالي من بين النهرين  منذ نهاية الألف الثاني قبل الميلاد .

 ولكنهم لم يفلحوا في تثبيت كيانهم  وإقامة دولة قوية حتى  منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، حيث نراهم يبرزون من جديد  ويشكلون ما يسعنا ان نسميها  " بالامبراطورية الاشورية  الوسطى "  .

وقدتميّزَ الاشوريون  بالقوة والعنف في الحروب العديدة التي شنوها  على الدول المجاورة لهم . فلم يترددوا في تدمير بابـل  سنة 1234 ق.م. .

وأعادوا الكـرّة عليها سنة 1087 ق.م.  وهدموها من جديد . . وأقاموا  " الدولة الاشورية الحديثـة التي دام حكمها نحو  اربعة قرون (1020- 612 ق.م. ) . وظهر في الدولة الاشورية ملوك عظام  اشتهروا بمآثرهم الحربية   وبأعمالهم العمرانية  .

ونخص بالذكر منهم :

 اشور ناصربال الثاني (  884 – 858 ق.م. )  الذي أقام مدينة كالح  ( نمرود )  عاصمة له

 ثم الملك سنحاريب (705 – 681 ق.م. )  الذي شيّد مدينة نينوى  واتّخذها عاصمة لملكـه

 . وكانت مدينة " اشور " قرب شرقاط الحالية  عاصمة اولى للأشوريين .

وهل يمكننا ان ننسى  فضل الملك اشوربانيبال (665 – 629  ق.م. )  الذي أقام مكتبة عظيمة في عاصمته نينـوى  احتوت على ألوف من الألواح الرخامية  المكتوبة بالخط المسماري  والتي تتضمن معلومات نفيسة  فـي التاريخ وفي مختلف العلوم المتداولة في تلك العصور .

وهناك ايضًا  الواح لا يحصى عددها  اكتُشفت فـي المدن الاشورية الأخرى .

الدولـة البابليـة الحديثـة  ( الكلدانيـون ) ( 626 – 539 ق.م. (

نهضت بابل من جديد من كبوتها  الأليمـة  وراحت تلحس جراحهـا  وتتعافى من الضربات الموجعة  التي انهالت عليها من مختلف الأقوام ، وشرعت تنجز مشاريع  عمرانية جليلة ، منها  الجنائن المعلّقـة ، وبرج بابل ،  وباب عشتار وغيرها .

 واشهر ملوكها في هذه الفترة هو  نبوخذنصر الثاني الذي حكم  43 سنة ( 605 – 562 ق.م. ). وهو الذي شنَّ حملة عاتيـة على بلاد فلسطين واحتل اورشليم ودمّر معالمها وسبى العديد من سكانها اليهود الى المناطق البابليـة  .

وكان البابليون ،  بدوافع التوسع والسيطرة ، والنقمة ايضًا ، قد قاموا بالاستيلاء على نينوى  وتدميرهـا سنة 612 ق.م. ، بالتعاون مع الاراميين الذين كانوا منتشرين في شمال بلاد الرافدين وفي جنوبهـا .

 انها الامبراطورية البابلية الحديثـة  التي دام حكمها أقل من قرن واحـد .

الفرس  الاخمينيـو ن 

أقبل الفرس الاخمينيون من بلاد ايران  واستطاعوا الاستيلاء على بلاد الرافدين  سنة 539، بقيادة كورش الفارسي، واحتلوا بابل  وهدموا مبانيها الجميلة وعبثوا بمعالمها . وهنا ايضًا ساعدهم الاراميون  في حملتهم العسكرية على بابل .

ومـن هـم الآراميـو ن ؟  

لقد تكلمتُ عنهم بإسهاب على صفحات مجلة " بين النهرين " طوال سنوات عديدة .

فعلى من يرغب في المزيد من الإطّلاع عليهـم  العودة الى هذه المجلـة .

 إنهم أقوام تسربوا الى بلاد الرافدين  والمناطق المجاورة ، وقدموا من الجبال الشمالية  والبلدان الشمالية الغربيـة .

وقد ظهروا في التاريخ منذ  الألف الثالث قبل الميـلاد ، وتوضحت معالمهم  في نحو منتصف الألف الثاني ، إذ كوّنـوا دويـلات عديدة تمتـدُّ من بلاد سمأل (وعاصمتها زنجرلي)  وهي تقع جنوبي آسيا الصغرى  ، حتى الشرق الأدنى  وشمالي بلاد الرافدين وشرقيها ، وكوّنوا طوقًا قويـًا حول الامبراطورية  الاشورية .

إنهم ، والحق يُقال ،  لم يفلحوا في تكوين وحـدة سياسية  قويـة تضمُّ جميع هذه الدويلات . وحتى سوريا ، التي كانت  في حقبة من الزمان تمارس  بعض الزعامة على الاراميين ، لم تفلح فـي توحيـد شأنهم .

وإذا لم يتميّز هؤلاء الاراميون بثقافة خاصة  وحضارة راقية ،  ولم يقوموا بدور كبير جـدًا  فـي شؤون البلاد الاقتصادية ، فإنهم شكّلوا شوكة  مزعجة  في أعين الدول الكبيرة ، وذلك لخفة تنقلاتهم وسرعة حركاتهم القتالية ، وسهولة تحالفهم مع الدول المجاورة

. إلا ان ما يثير الإعجاب عند هؤلاء الأقـوام  هي لغتهم المدهشة  ببساطتها وسهولة استعمالها  وسرعة انتشارها بين الدول الكبرى  التي استخدمتها لغةً للتداول والمراسلات  بينها وبين مستعمراتها البعيدة والقريبة ، بجانب لغاتها الخاصة الاشورية او البابلية او الفارسية ، بل حازت على قصبة السبق على لغات المنطقـة ، وفرضـت نفسها على مختلف الصُعـد .

وبعد ان فرض الفرس الاخمينيون سيطرتهم على بلاد الرافدين  نحو قرنين (539 – 330 ق.م.) ، أخلوا الموضع لسلطة أخرى صاعقة زحفت من الغرب واستولت على معظم المناطق التي اجتازت بها ، حتى وصلت بين النهرين . إنه الاسكندر الكبير المعروف بذي القرنين  والسلوقيون الذين خلفوه في الحكم  على المنطقة  طوال نحو قرنين (331 – 126 ق.م.(.

     ثم أقبل  " الفرثيون  او الارشاقيون او الأشغانيون " الذين يُطلق عليهم ايضا لقب "ملوك الطوائف"  من مناطق ايران الشمالية  والوسطى واستطاعوا  السيطرة على بلاد  الرافدين  وتحريرها من أيدي السلوقيين . ودام حكمهم نحو ثلاثة قرون ( 126 ق.م. – 224 م . ( .

    وعاد  " الفرس الساسانيون "  وزحفوا الى بلاد بين النهرين  وانتزعوها من سيطرة الفرثيين .

ودام حكمهم في البلاد  اكثر من اربعة قرون ( 224 – 637 م. ) .

ثم استولى عليها العرب المسلمون منذ سنة 637 ، وتعاقب على حكمها  مختلف السلطات :

 الخلفاء الراشدون ، ثم الأمويون ، وبعدهم جاء العباسيون  الذين تولوا السلطة في المنطقة كلها  وفي كثير من البلدان القريبة والبعيدة   منذ سنة 750  حتى سنـة 1258.

فسقطت بغداد والدولة العباسية في ايدي المغول  القادمين من بلاد منغوليا في آسيا الشرقية .

وكان عهد المغول نكسة ، بل كارثة كبيرة  حلت بالبلاد كلها ، وقضت فيها على الكثير من الانجازات الرائعة ، وعاثت بالمعالم الحضارية والثقافية فسادًا ، واستبد الحكام الجدد  بشؤون البلاد كلها  وبمصيرهـا،  وعاثوا في الأرض فسادًا ، وتصرفوا بمصادر البلاد وثرواتها  كما شاؤوا مدة قرن . (1258 -  1344)

 ولم يكن  " العهـد الجـلائـري " (1337 – 1411)  بأفضل من العهد المغولي .

وقد اشتهر بينهم   السلطان محمد الملقَّب  " تيمور لنك " ، اي تيمور الأعرج ( 1405- 1336).

 وتلاهم في الحكم على البلاد  سلالتان من قبائل الغز التركمانية المغوليـة ، هما القره قوينلو (أي  الخروف الأسود ) (1411 – 1467)، وسلالة " الآق قوينلو " (أي  الخروف الابيض)  (1467 -1508) .

وفي عهد هاتين السلالتين ،  عمّت الفوضى والاضطرابات في البلاد  على مختلف الصُعـد  ، مما ألقى البلاد برمتها في حالة من الفوضى والظلمـة الفكريـة  وتدنّي الأخلاق  والتنكّـر  للقيـم  الانسانية الأصيلـة .

وجاء  " الحكـم العثمـا نـي  ." ( 1290 – 1924 ) 

لقد بدأ ظهور العثمانيين  في آسيا الصغرى ، ثم انتشروا ، خلال القرون اللاحقـة ، في مناطق عديدة،  حتى سيطروا على معظم البلدان الواقعـة  شرقي آسيا الصغرى (تركيا الحالية) ، ومنها بلاد الرافدين التي  رزحت تحت سيطرتهم طوال قرون طويلـة ، وعانت الكثير من الظلم والتعسف ، واختبرت من المآسي ما يندى لها الجبين خجلاً، ومن المجازر  التي ما يزال صداها يرنُّ في التاريخ ، ولاسيما تلك التي  ارتُكبت ضد المسيحيين  خلال الحرب الكونيـة الثانية (1914 –  .( 1918

هذه هي الأرضية التاريخية التي قدمتها  للقراء الكرام ، وحاولتُ  ان أكون فيها  اقرب ما امكن من الموضوعية  التاريخية بغير انحيـاز .

وبغيتي ان يكون القراء الكرام  على علم بما دار في بلادهم ، التي اصبحت ، عبر الأجيال الطويلة ، السابقة واللاحقة للتاريخ  الميلادي ، ساحة واسعة لصراعات متلاحقـة  بين القوى المتناحرة .

وكانت كل قوة جديدة تحتل البلاد  تريد القضاء على الشعوب السابقة وإبادتها عن  بكرة أبيهـا .

هكذا توالت العديد من الدول  التي كان لها شأن كبير في نقل الحضارة وازدهار العلوم والفنون  وتقدم المعارف  على مختلف الصعـد.

فزالت دول عديدة من الوجود او ذابت في غيرها من الشعوب الغازيـة .

 أجل ، لقد تمازجت الشعوب  في بلادنا ،  وكوّنوا أعراقًا عديدة ، متآلفـة حيناً ، ومتناحرة أحيانًا .

وقد تراجعت شعوب أخرى الى بلدانها ، بعد ان أشبعت نهمها من خيرات البلاد، وهي تجرُّ اذيال الفشل والخجل  من الجرائم التي ارتكبتها في هذه البلاد المسالمة .

 فأيـن توارى السومريون  الأذكياء ؟ واين اختفى الأكديون ؟

وكيف زال نفوذ الاشوريين العظام  وتلاشت سيطرة البابليين  والدول الأخرى التي كانت تتباهى  يومًا وتتفاخر بسلطتها وقوتها وسيادتهـا على هذه البلاد  العريقة في القدم .

    وفي هذا الخضمّ من الأعراق والجنسيات والقوميات اتي مرّت بهذه البلاد ، هل يستطيع انسان اليوم ، مسيحيًا كان أم مسلمًا ، أن يؤكّـد انتماءَه الى عرق معيّن  او الى قومية لا يرقى اليها أي شك ؟

 قالوا اننا ننتمي الى القومية  الكلدانية او السريانية او الأشورية – حتى اذا رفعنا " أو " من بينها وجعلناها قومية مثلثة الأضلاع - .

فمن ذا الذي يستطيع  ان يؤكد انتسابه الى هذه القومية دون أخرى ؟

 ومن ذا لذي يمكنه  ان يربط حاضره  بأقوام عاشوا قبل اكثر من ثلاثة آلاف سنة او حتى ألفي سنة في هذه البلاد؟

 وهل ثمة انسان عاقل يسعه ان يقدم البراهين  على ذلك الانتساب ؟

 كلٌّ منا يتمنى الانتساب الى اجداد عباقرة  وأسلاف جبابرة  اشتهروا في تاريخ البشرية ، ولكـن  ...

 إنها أمنيات عذبة، غير انها قد لا تمتُّ الى  الحقيقة التاريخية بصلة  قريبة او بعيدة ، إنما اخترعتها مخيّلاتنا الخصبة  وأنتجتها عواطفنا الخـلاّقـة،  ولكن أيـن  الحقيقـة؟ 

   نقول بكل صراحـة :

في هذه الفترة الأخيرة ،  فُرضت على المسيحيين قومية غريبة مثلثة  الأضلاع، ومنحوا كل ضلع منها تسمية خاصة :

ضلع للكلدان ، وآخر للسريان ، وآخر للاشوريين .

ولكن ما البراهين التي تدعم هذا التقسيم المضحك المبكي ؟ 

 إني في مقال وجيز سابق، رفضتُ هذا المثلث رفضًا قاطعًا ، لكونه لا يتجاوب مع الحقيقة، بل يسهم في تجزئة المسيحيين، واستمالتهم ، تحت ضغوط قوية،  الى هذه الجهة او تلك  من التيارات السياسية التي تعصف بالبلاد، والتي تنذر بالويل والثبور وبعظائم الأمور، وقانا الله شرها.

أما يكفينا ما عانته البلاد  من الويلات والنكبات  طوال تاريخها ، ولاسيما في هذا العقد الأول من الألف الثالث الميلادي؟ 

وهل نريد ان نضيف الى مصائبنا عناصر أخرى  ربما دُبرت لصهرنا في  بوتقة  القوى الأخرى التي تريد ابتلاعنا  او تهميشنا  او جعلنا قسرًا من الرعايا التابعين  الذين لا حول لهم ولا قوة ، او جمعنا في رقعة محدودة  ، لجعلنا درعًا واقيًا لكلتا القوتين الكبريين في  البلاد ؟

ايها الاخـوة الكلدان والسريان والاشوريون ، حذارِ من الوقوع في الفخاخ الخطرة التي تُنصب لكم  !

 فنحن في منعطف خطير من تاريخ بلادنا الحبيبة ومن مسيرتها في ركب الحضارة والتقدم ، وقد تأخرنا في هذا المضمار كثيرًا .

لكم كل الحق على ان تختاروا هويتكم وقوميتكم  على أسس تاريخية واتنيـة (عرقية) ثابتـة، وان لا تبقوا في جو من التردد والحيرة . ويحق لكم ايضًا ، بل يجب عليكم ، ان ترفضوا قومية تُفر َض عليكم فرضًا  بشتى الوسائل ، حتى بإغراءات مادية .

فلا تكونوا ضعفاء النفوس ، فترضخوا لهذه الاعتبارات ، ولا يرهبنّكـم  الوعد ولا الوعيد ، فتبيعوا قوميتكم بأبخس الاثمان .

فان القضية مصيرية وهي تستحق النضال وتتطلب الكثير من التضحيات . فأظهروا عظمتكم وحريتكم ، ولا تنساقوا بسرعة وراء اعتبارات مغرضة.

وقلتُ وأكرر ان القومية لا تباع ولا تشترى ابدًا !

قد تقولون لي :

وماذا تقترح انت ؟

 وما القومية التي تقدمها لنا ؟

اسمعوني جيدًا ، ايها الاخوة الأحبّـاء :

 إني لا أرفض هذه التسميات الثلاث بدافع العاطفة  او التزمّت!

 فأنا أحب واقدّر جميع الفئات، أيًا كانت تسمياتها ، واحترم حريتها وخياراتها . ولكني اتمنى لكم الوحدة المتينة ، وان تكون هذه الخيارات  مستندة الى دعائم قوية ، وتسعى الى التوحيد وليس الى التفرقـة فـي  الأهداف والمسيرة والامكانات ، كما ترمي اليه هذه التسميات المثلثـة .

فأنا ، بكل صراحة ، وبعد دراسات وبحوث مستفيضة ،  أميـل الى اختيـا ر ا لـقـو ميــة  ا لآ ر ا ميــة  "

وذلك لأسباب عديدة  ذكرتُ بعضها في هذا المقال . وأضيف قائـلاً :

كان الاراميون منتشرين في مناطق عديدة  من بلاد الرافدين .

 وقلتُ إنهم أسهموا مع البابليين  في إسقاط الدولة الاشورية سنة 612 ق.م. .

ثم انضمّوا الى الأخمينيين  وقضوا على الدولة البابلية سنة 539 ق.م.  وقد واصل الاراميون وجودهم في البلاد ، بل ازدادوا فيها انتشارًا  وتأثيرًا عبر الأجيال .

 وكانت  لغتهم الارامية العامل الأكبر الذي يوحّدهم  ويوفّر للشعوب المجاورة  وسيلة سهلة للتداول والتعبير ثم للكتابة .

ولقد اصبحت هذه اللغة  عنصرًا أساسيًا في توطيد انتمائهم الديني لدى انتشار المسيحية في ما بين النهرين  في نحو نهاية القرن الميلادي الأول .

وكان لهذه اللغة دور كبير في نشأة المسيحية  وتسهيل تعابيرها الدينيـة ، انطلاقًا من الرها (اورفا الحالية في تركيا ) .

وكانت هذه اللغة عنصرًا مكوِّنـًا لقوميتهم ، ولو ان بعضًا من آبائنا المسيحيين القدامى  رأوا في الارامية تسمية مترادفة  للوثنية ، فحاربوها وأتلفوا الكثير من الكتابات النفيسة  الواردة فيها .

 إلا ان الاراميين بلغتهم الرائعة واصلوا  مسيرتهم عبر الأجيال ، واستطاعوا ان يقدّموا للبشرية  كتابات كثيرة تتناول  مختلف انواع العلوم ...   

ربما ان حساسية بعض آبائنا القدامى السُذّج  ضد الاراميين قد انتقلت  الى بعض من أبنائهم  في الألف الميلادي الثالث.

  ولكن لا يجوز ان ننكر فضل هؤلاء الناس الذين نقلوا الينا الايمان  ووضحوا لنا التعابير الفلسفية واللاهوتية ، وما تزال كتاباتهم تشكّل ثروة طائلة للبشرية جمعاء ...  وحياتنا الليتورجية  ما تزال تستمد تعابيرها من كتابات هؤلاء العباقرة الذين  قدموها لنا بصيغ قصائد او ترانيم او اناشيد  تكوّن غذاءَنا الروحي اليومي .

فهل يمكن ان نتجاهل هذا  الفضل العظيم ؟

وكلنا نعلم  ان اللغة الارامية ما تزال تشكّـل  الشريان الحيوي  لتداول الكثيرين من المسيحيين ، ولاسيما في المناطق الشمالية من البـلاد  .

وهل تدرون ان البلاد التي كانت تُدعـى في العهد البابلـي  الحديث " بلاد الكلدانيين"  قد اتّخذت تسمية جديدة  بعد انتشار المسيحية  في المناطق الجنوبية من بلاد الرافدين، فسميت الرقعة الواسعة الممتـدة بين دجلة والفرات  من جنوبي بغداد الـى ملتقى النهرين في شط العرب  " بلاد الاراميين  -  بيث ارامايـي " .

وكانت في القرون المسيحية الأولى تضمُّ  العدد الأكبر مـن  المسيحيين  في ما يسمى الآن  " العراق".  وكانت الكنيسة الاولى التي اقامها مار ماري في منطقة "كوخي"  في ساليق فـي هذه المنطقة.    

اعلم ان بعضًا من اخوتنا المسيحيين سيرفضون هذه التسمية القديمة – الجديدة ، وربما سيكيلون لي بعض الإهانات.

 لا بأس ! 

فالحقيقة تتطلب الكثير من الجرأة  والشجاعة  وتستحق الكثير من التضحيات والصبر ....

     أناشدكم ، ايها الاخوة المسيحيون ،  ان تتشجعـوا ، وألا تنساقوا  بسهولة الى كل ريح  تهب  وتحمل لكم  أمـورًا  غريبة عن هويتكم وقوميتكـم ، وقد تنقلب عليكم أعاصير مدمّـرة .

لقد قلتُ مرات عديدة  ان القومية لا  تُباع ولا تشترى ،  وهي اسمى من كل المساومات المصلحيـة.

لتكن نفوسكم كبيرة لا ترضى  بأمور خسيسـة ، بل تلتزم بما من شأنـه  ان يبرهن للعالم  عن عظمة حياتكم وسمو اهدافكم  ونزاهة مسيرتكم ، ولاسيما عن وحدتكم  الرائعـة. 

وهكذا سيمكنكم ان تقدّموا  للعراق  ، بل للعالم كلـه،   شهادة صادقة ، إذ تُظهرون  مَن انتم بكل صراحة وجرأة وحقيقة  ، وما هي القومية  التي توحّدكم  ، والأهـداف  السامية التي  تحرك مسيرتكـم الى الأمام دومـًا .

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها